الفساد السياسي..نحو منهجٍ علمي في مكافحة الفساد

آراء 2020/12/13
...

 د. حسن الياسري
 
 لا ريب في أنَّ للسياسة وأربابها الدور الأبرز في ترسيخ دعائم الحكم الرشيد أو تأسيس الفساد العتيد، من هنا كان النظام السياسي وطبيعته ومنهجه يمثل سبباً رئيساً في استشراء الفساد أو الحد منه. فالسياسة تعد مجالا واسعاً لتفشي الفساد ونشوء ما يمكن أن نطلق عليه (الفساد السياسي)، وهو الفساد الناجم من الممارسة السياسية، ويتحقق حينما يحصل سوء استعمال السلطة لتحقيق مكاسب خاصةٍ من قبل النخب الحاكمة ؛ فهو فساد السلطة الحاكمة.
إنَّ هذا النوع من الفساد يعدُّ الأساس والنواة لبقية أنواع الفساد، وفي الحقيقة ثمة أسبابٌ كثيرةٌ ومتعددةٌ تتعلق بالنظام السياسي والممارسة السياسية، يمكن أنْ تسهم في تفشي الفساد السياسي في دول العالم المختلفة؛ وتوخياً للإيجاز سأذكر أهمها وأخطرها، مستوحياً جُلَّها من التجربة الميدانية.  
1 - طبيعة النظام السياسي:
ينتشر الفساد في النظم السياسية جميعها، سواءٌ أكانت ديمقراطيةً أم غير ديمقراطيةٍ، وسواءٌ أكانت الدولة متقدمةً أم ناميةً، ولكن بتفاوتٍ، إذ تكون العلاقة في العادة عكسيةً بين الديمقراطية والفساد، فكلما كانت الدولة أكثر ديمقراطيةً كلما قلَّ الفساد، وبالعكس يزداد الفساد مع شيوع الاستبداد والدكتاتورية، كما كان في العراق في ظل النظام الدكتاتوري المباد، إذْ كانت مُقدَّرات البلد كلها منوطةً برغبات ونزوات شخصٍ واحدٍ وحزبٍ واحدٍ، يفعلون ما يشاؤون، من دون حسيبٍ أو رقيب.وبالعكس يضعف الفساد- ولا يختفي- في الدول الديمقراطية، ويزداد ضعفاً كلما رسخت الديمقراطية وآلياتها أكثر. 
2 - الاستقرار السياسي:
يتفشى الفساد مع جوِّ عدم الاستقرار السياسي، فكلَّما كان النظام السياسي غير مستقرٍ وغير فعَّالٍ كلَّما تنامى الفساد، الأمر الذي يفضي إلى غياب دولة المؤسسات، وضعف الحافز الذاتي لمناهضة الفساد. ولهذا ترون أنَّ منظمة الشفافية الدولية تعتمد في أحد معاييرها المهمة في تصنيف العراق، بمراتب متأخرةٍ في الفساد على معيار الاستقرار السياسي، ومن المعلوم أنَّ العراق كان يعاني منذ حرب عام 2003 من أجواء عدم الاستقرار السياسي، الناجمة من الاحتلال الأميركي والدمار، الذي أحدثه للبنية التحتية، وما رافق ذلك من تنامي إرهاب القاعدة وغياب الأمن، ثم احتلال عصابات داعش الإرهابية لأجزاء من أراضي العراق. فكل ذلك ولَّد أجواءً من عدم الاستقرار السياسي التي انعكست على تنامي الفساد من جهةٍ، والتصنيف المتأخر للبلد في معايير مكافحة الفساد من جهةٍ أخرى. 
3 - التغيير المستمر في الحكومات:
إنَّ مما يفضي إلى عدم الاستقرار السياسي ما تواجههُ بعض الدول، وبخاصةٍ النامية،من كثرة التغييرات في الحكومة، سواءٌ أكان التغيير ديمقراطياً عبر الانتخابات أم غير ديمقراطيٍ عبر الانقلابات، إذ عادةً ما يؤدي هذا - كما في العراق مثلاً- إلى تغيير القيادات الإدارية وإبدالها بقياداتٍ أخرى تعتمد على الولاءات السياسية أساساً، وليس الكفاءات الإدارية، الأمر الذي يزعزعُ الاستقرار السياسي ويهيئ الأجواء لنمو الفساد؛ وذلك لسببين: الأول: شعور الموظف عموماً والقيادات الإدارية على وجه الخصوص بعدم الاستقرار، وأنَّ مسيرتهم الوظيفية ليست مرتبطةً بمدى خدماتهم في الوظيفة العامة، ولا بكفايتهم ونزاهتهم في أداء العمل، بل ترتبط بالولاء لجهاتٍ معينةٍ؛ وكل ذلك سيفضي إلى إصابتهم بحالةٍ من الانفلات الإداري- إنْ صحَّ التعبير- واللامبالاة والتسيُّب.
الثاني: عدم خبرة القيادات الإدارية الموالية في الغالب، ولكونهم قليلي الخبرة، ولكونهم يعلمون أنهم ما حازوا الموقع بجدارتهم وخبرتهم وكفايتهم، بل بولائهم لهذه الجهة أو تلك، فإنَّ ذلك كله سيخلق فكرةً في أذهانهم مفادها بأنَّ الموقع الإداري والوظيفة ما هما إلا فرصةٌ للتربُّح والكسب السريع وتكوين النفس -كما يُعبِّرون- وليس للخدمة العامة، هذا من جهةٍ ، ومن جهةٍ أخرى سيغرسُ ذلك في أذهان غيرهم من الموظفين أنَّ الخبرة والكفاية والنزاهة لا اعتبار لها، ما يُصيبهم بالإحباط بالمحصلة؛ فيتفشَّى الفساد ويتأصل من حيث يشعرون أو لا يشعرون.
4 - التزاوج بين السلطة والثروة:
 إنَّ استغلال السلطة لتحقيق مآرب خاصةٍ يتسبَّب في نشوء الفساد، فإذا تمَّ التزاوج -إنْ صحَّ التعبير- بين السلطة والثروة اتَّسع الفساد أكثر. وبيان ذلك أنَّ الفساد السياسي يخلق نوعاً من التزاوج بين أرباب السلطة من جهةٍ ورجال الأعمال وثرواتهم من جهةٍ أخرى، حيث تكون المنافع متبادلةً بين الاثنين، إذْ يبسط رجال السلطة حمايتهم على رجال الأعمال لتمكينهم من الحصول على مقاولاتٍ بطرقٍ غير مشروعةٍ، في مقابل قيام رجال الأعمال ببسط جيوبهم وتقديم الدعم المالي لرجال السلطة، سواءٌ في الانتخابات أو غيرها. وكل ذلك سيوقعهم في شراك الفساد المستحكم أو المستتب، إذْ يكون الفساد منتظماً ومستحوذاً عليه من قبل فئةٍ مؤثرةٍ في المجتمع. إنَّ استغلال السلطة والنفوذ من أهم الأسباب السياسية للفساد، وإنَّ هذا الاستغلال لا يقتصر على المراتب العليا، بل يشمل المستويات الإدارية جميعها، العليا والوسطى والدنيا.
5 - الضغوط السياسية والاجتماعية:
 إنَّ كثرة الضغوط التي يتعرَّض لها التنفيذيون والإداريون تأخذ مناحيَ عدةً، أبرزها المنحى البرلماني والاجتماعي. فلقد أثبتت التجربة البرلمانية في العراق- كما هي واضحةٌ للجميع- كثرة الضغوط التي يمارسها - بعض- أعضاء البرلمان؛ ما يضطر القيادات الإدارية التنفيذية لتلبية طلباتهم ورغباتهم المخالفة للقانون؛ للتخلص من هذا الضغط، ولا سيما حينما يُشفع -الضغط- بالتصريحات الإعلامية النارية -المخالفة للواقع- والتهديد بالاستجواب ونحوه، فتتحول الوسائل الدستورية التي وجدت لتقويم الأداء إلى وسائل ضغطٍ وابتزازٍ رخيص. وهكذا الضغط الاجتماعي المتمثل بالعشيرة والقرابة والعائلة والأصدقاء..الخ. إذْ تؤدي كل هذه الضغوط إلى خضوع واستجابة المسؤول التنفيذي لها، وإنْ كانت مخالفةً للقانون؛ الأمر الذي يوقعه في شراك الفساد. ولا إخالُ أحداً من المسؤولين التنفيذيين والإداريين لم يتعرَّض لهذين النوعين من الضغوط. والسؤال المنطقي الذي يُطرح هنا لا يتعلق بمعرفة كم من هؤلاء تعرض لهذه الضغوط، بل بمعرفة كم واحداً منهم خرج منها منتصراً شامخاً بأنفهِ، ليس بخاضعٍ للفساد ولا بمطيعٍ له؟. 
6 - توزيع المناصب من دون مراعاة الخبرة والكفاية والنزاهة:
ليس غريباً في النظام الديمقراطي أنْ تحصل الأحزاب السياسية المؤتلفة في الحكومة على بعض المناصب التنفيذية، بيد أنَّ الغريب أنهم قد يحصلون عليها، من دون مراعاة المبادئ الرئيسة في تسنُّمها، والمتمثلة بالخبرة والكفاية والنزاهة؛ فإنْ عُدمت هذه المبادئ تفشَّى الفساد، وغدا أمراً متسالماً عليه؛ الأمر الذي يُصيب العملية السياسية بمقتلٍ.  إنَّ الفساد -السياسي- الناجم من الممارسة السياسية هو الأبرز، بل البعض يعده الأخطر ؛لأنه يؤدي إلى فساد القمة التي ينبغي أن تحارب الفساد، لا أنْ توجده؛ ما يفضي بالمحصلة إلى تقليل فرص محاربة الفساد من قبل غيرهم بفاعليةٍ مع أني أميلُ إلى أنَّ الفساد الأخطر هو الناجم من فساد المجتمع.