صلاح حسن السيلاوي
هل غيرت الأغاني عبر آلاف السنين شيئاً في ثقافة مجتمعنا، وهل نستطيع أن نوجد أفكاراً ومفاهيم معينة في حياة الناس من خلال صناعتها؟ أزعم أنَّ للأغنية حصة واضحة من التأثير، يدل على ذلك ما تؤكده الحضارات العراقية القديمة من ارتباط معابدها وقصورها بنشوء الأغنية حيث وجدت على الرقم الطينية السومرية والبابلية صور لمغنيات وآلات موسيقية، كما تشير المصادر إلى أنَّ أول أغنية في التاريخ مكتوبة على لوح سومري. حتى أن العراقيين القدامى صنعوا آلات عزف من الذهب والفضة في الألف الرابع قبل الميلاد.
استمرت علاقة الأديان بالغناء، فالمسيحيون والمسلمون يقدمون في أماكن عباداتهم غناءً مرتبطاً بغايات تعبدية.
العراقيون متمسكون بالغناء كالنخل بجذوره وهذا ناشئ برأيي من ثلاثة جوانب هي: اختراعهم للكتابة، كتابة الشعر، ممارسة الغناء.
علاقة هذه الثقافات المهمة ببعض مؤكد فالشعر الذي قد يكون سابقاً للكتابة في عالم الشفاهية أوجد لنفسه أفقاً مهماً في التدوين والغناء الذي لا يمكنه أن يكون بلا شعر أوجد لنفسه سماء فسيحة في عالم يُكتب فيه الشعر ويغنّى. أعتقد أن هذا الثالوث الثقافي تأصّلَ في حياة الفرد العراقي فأصبحت الكتابة والشعر والغناء حاجات ملتصقة بوجوده والدليل على ذلك أنّ الغناء يدخل في كثير من تفاصيل حياته فمنذ ولادته تغني له أمه (الدللول) مشوبة بالحزن وعميقة في الشعر واللحن، ثم يشاهد وهو يتنقل بين سنوات عمره كيف يدخل الشعر في حفلات الحياة والموت كالزواج وإقامة العزاء والحروب من خلال الأهازيج المغناة والأغاني الخاصة برفع حماسة المحاربين، فضلا عن غناء البيئات المختلفة عن بعضها كالبدوي والريفي والمدني وغناء المهن كالفلاحين مثل (أغاني الحصاد) والصيادين مثل (أغاني البحارة). الأغنية أسهمت بتدعيم أفكار أو مفاهيم مختلفة عن الحياة، ولنوضح هذا الرأي يمكن أن نتساءل، لماذا تتصف الأغنية العراقية بالحزن دائما؟ في الإجابة يمكن استشفاف أن الحزن المتداول في كلمات ولحن الأغنية كان استجابة لمؤثرات ما خاضه العراقي من حروب وصراعات، بالإضافة إلى قلقه الدائم من فيضانات الأنهار التي كان يعيش على ضفافها فكان الحزن نتيجة طبيعية، ولكن الأغنية أسهمت بتوطين هذا الحزن في الذائقة للدرجة التي أصبح معها الحزن سمة غالبة على كل الفنون انطلاقاً من الشعر الى الموسيقى الى الفنون التشكيلية والدراما. لهذا كله أجد أن على الدولة ومؤسساتها الثقافية والتربوية والتعليمية التنبه إلى ارتفاع منسوب الحزن وفيضانه على ملامح العراقيين وهم يغنون أو يستمعون لكل هذه الأغاني الملحمية. على الدولة أن تفكر بكسر سدود الحزن التي صنعتها الأغاني في ذائقة المجتمع لتقيم سدوداً أخرى للفرح والتفاؤل.
العراقيون لهم طقوس معينة في الإصغاء لأغانيهم المفضلة أيام السبعينات، فمثلا كان الفلاحون وأصحاب المهن يعطلون مهنهم ليستمعوا في أوقات بث معينة لمطربيهم على الراديو أو على التلفزيون، أما التجار فكانوا يستثمرون على هوامش هذا الغناء فيطلقون اسماء بعض الاغاني المشهورة على نوعيات الاقمشة ويتم تسويقها فيشتهر القماش كشهرة الاغنية. ويمكن ملاحظة اهمية الاغنية ومقدار خطورتها باستذكار حروب الطاغية صدام وكيف كان يشحن المجتمع ويطوق وعيه بمفاهيم الموت وضرورات الحرب وتجميل سبلها وكيف استطاع من خلال الاغنية استدرار تعاطف المجتمعات العربية مع قضاياه.
أرى أن على المؤسسات الثقافية الانتباه إلى خطورة الأغنية فيما لو تم تشويهها وتحميلها بمفاهيم الغدر والخيانة والسذاجة وتفريغها من المحتوى الإنساني العظيم. أزعم أن الدولة لو تمكنت من استثمار الأغنية اسثماراً معرفيا لكان الظلام في النفوس والعيون أقل من مستواه حاليا.