اللسانيَّة العربيَّة

منصة 2020/12/16
...

جواد علي كسار
 
عند الحديث عن اللسانية فإنّ أوّل ما يتداعى إلى الذهن، هو النظريات اللسانيَّة الحديثة والمعاصرة، التي تبلورت مع بنيويَّة دي سوسير، ونمت مع الاتجاه النسقي للويس هلمسليف، والتوزيعيَّة التي يتزعمها أميركياً بلومفيلد، وبلغت حدوداً قصوى من التطوّر مع النظرية التوليديَّة، لعالم اللسانيات الأميركي المعاصر نعوم تشومسكي.
لكنْ إذا أخذنا بجوهر الفكرة؛ من أنَّ اللسانية هي دراسة اللغة كظاهرة صوتيَّة، أو الإطلالة على اللغة كألفاظ، بُغية معرفة نشاطها وطبيعتها، واكتشاف قوانين اللسان؛ فإنَّ لهذه الظاهرة عرضها العريض في فكر المسلمين، ومن ثمّ فقد سجّل هذا الفكر، تراثاً عميقاً وممتدّاً في البحث اللساني، بلغ مدياته القصوى مع نظريات بارزة، لا نزال نتابع تأثيراتها في لغتنا العربيَّة. فمع عالِم البصرة عمرو بن بحر الجاحظ (159 - 255هـ) ولدت المدرسة أو الاتجاه البياني، وأشهر ما عُرف عنه نظرية الدلالات الخمس؛ اللفظ والإشارة والعقد والخطّ والنصبة، كما تتضح معالمها مفصّلة في كتابَيْه: «البيان والتبيين» و«الحيوان».
بالانتقال إلى رمز آخر، هو عبد القاهر الجرجاني (400- 471ه) نجد تطوّراً كبيراً قد حدث في النظرية اللغوية العربية. فمع أنَّ جهد الجرجاني في البحث اللغوي، قد انصبّ على خدمة الإعجاز القرآني، إلا أنَّ في ثنايا نظريته عن النظم، ما ينفع في تفسير اللغة ودلالة الألفاظ على المعاني. يركز الجرجاني على تناسق الدلالة، وبتعبيره: ليست قيمة الكلام أوالألفاظ، ماثلة بنظم الجمل أو الكلم بتوالي الألفاظ المنظومة، بل الغرض هو الدلالة، وتناسق الدلالة لصوغ المعاني، على مقتضى العقل.
عند هذه النقطة، يقول نصاً: «النظم عمل يتّحد في الوضع، لكنه يدقّ في الصنعة». الوضع والنظم عند مؤلف «دلائل الإعجاز» و«أسرار البلاغة» هما باب من الهندسة، لكنها الهندسة العقليَّة كما يصطلح على ذلك الباحث اللساني الجزائري محمد الصغير البناني، ومن ثمّ فإنَّ إقحام هذه الهندسة في الدلالة، يقرّب ما بين اللغات، ويرفض من هذه الزاوية نظرية اللغة البدائية واللغة المنظورة.
شهدت اللسانية العربية منعطفاً آخر، مع يوسف بن أبي بكر السكاكي (555 - 626ه) بتركيزه على النزعة التوليدية. فاللغة عنده كالشجرة تمرّ بجميع حالات الكلام وصنائعه، حتى المنطق والفلسفة. يشتهر عند صاحب «مفتاح العلوم» مصطلح «خُزانة الصور»، فالنفس الإنسانيَّة أو عقل الإنسان يختزن الصور، ويُخرجها عند الحاجة؛ دلالات وتراكيب وألفاظ. للسكاكي أمثلة ظريفة في «الخزانة»، منها الجمع في المبصرات بين الخدّ والورد، وفي الوهميات بين المنيّة وحيوان وهميّ، وهكذا. كما أبدع حين أشار في الدلالة، إلى دور الكلام بالأسلوب، والكلام بالزمان، والكلام بالأشخاص، والكلام بالسياق، والكلام بمقتضى الظاهر؛ وإلى علاقة الكلمات بعضها ببعض.
أخيراً لا يمكن تجاوز حقل العربية من دون المكوث عند المنجز اللغوي لعبد الرحمن بن خلدون (732 - 808ه). يذهب صاحب «المقدمة» إلى أن اللغة جزء من العمران، كما هو شأن المعاصرين، ومن ثمّ فاللغة مرآة العقل والحضارة، وانعكاس لمستوى الإنسان ودرجة الرقيّ الفكري. وبهذا جاز عند ابن خلدون، وجود لغة بدائية وأخرى متقدّمة، فصارت عنده اللغة الخام تعبيراً عن البداوة، واللغة كنحو تعبيراً عن الحالة السياسية، واللغة كبلاغة تعبيراً عن الحالة الحضرية.
في ضوء هذا المفهوم الارتقائي الذي ينطلق من مرتكز مؤدّاه؛ أن العمران امتداد للبيان، وأن نهاية اللغة هي بداية العمل، يزوّدنا ابن خلدون بنظرية تفسّر نمو الفعل اللغوي، عبر مراحل متراكمة. فالدلالة تنشأ من الفعل الإنساني، فإذا تكرّر الفعل صار صفة، وإذا تكرّرت الصفة صارت حالاً، وإذا تكرّر الحال تحوّل إلى مَلَكة. وهكذا تنشأ الدلالات والمعاني.