العنف ثقافة الأب البطرياركي
ثقافة
2020/12/19
+A
-A
ناجح المعموري
يتمتع العنف بحضور واسع وعميق للغاية، متمثلاً ذاك الحضور بثقافة لها تاريخ بعيد الغور، عمرها يتماثل مع التاريخ الكلي للعراق. ليس هذا فقط، بل هناك حضورات أخرى لعبت دوراً بارزاً في تكريس ظاهرة العنف والترويج لتداولها.
نستطيع العودة إلى عتبات التاريخ الحضاري ونؤشر بأن المرحلة الأمومية، هي الأخرى عرفت العنف، لكنه أقل حضوراً، بسبب العناصر الثقافية والدينية المساهمة بتكوين ديانة الأم الكبرى، مضافا لذلك انشغالاتها الحياتية المتمثلة باليومي المنشغل بالزراعة والعناية بالخصوبة بمفهومها العام. أما خطاب الذكورة ومكوناته فهو الأول الذي عرفته الحياة بعد انهيار الديانة الأمومية وسيادة البطرياركية التي ذهبت منذ تلك المرحلة نحو العنف والدموية وهذا يتمثل بوضوح عبر رموزها. لذا يكشف تاريخ الفن بأن قوة الرموز وتكرسها كشاف لا يقبل الاختلاف وكافية للإعلان عن نوع المرحلة الحضارية .
العنف ثقافة اجتماعية، وليس تاريخاً محدداً، بل هو مرتبط باللحظة التي يبدأ بالكائن يرى ويتعرف على ما يدور أمامه في البيت انه عنف العناصر المركزية المهمة التي شاركت بصياغة شخصية الكائن، ومثل هذه الثقافة تستجيب- للنمو والتطوير وترتضي بكل ما يغريها. ولا بد من إخضاع هذه المستلمات لثقافة مضادة تلعب دورها للتقليل من تصاعد العنف المكتسب والسعي لتخليص الكائن منه، لكن مثل هذا الحلم أمر مستحيل جداً .
أستطيع القول إن العنف أول المستلمات الثقافية عبر العلاقات الاجتماعية وأولها الأسرة. والعودة لعتبات الحضارات القديمة، سنجد بأن العنف أحد أكثر آليات القمع التي تمارسها السلطة المقدسة، حيث كان الكهنة يعتمدون على العنف آليّة لتكريس المقدّس وقبوله بالتداول الخاضع للجدل بين تعددات الآلهة وأحياناً كثيرة تدخل الآلهة عبر انظمتها في صراع، يفضي إلى نشوء عقائد ذات وظائف لتكريس دور الإله ضمن نسق الآلهة. وصار معروفاً أن المقدس يحفز على طقوس وعقائد عنيفة ويتحول العنف فيها لعنف سائل، حتى صار الدم علامة على أهمية المقدس واستمرار حضوره في الحياة. وأنا أعتقد (من خلال متابعتي للدين انثربولوجيا) بأن المقدس هاوٍ للعنف ومغرم بالدم، على الرغم من أنه استطاع بعد زمن طويل، التخلص من القرابين البشرية والتحول نحو الحيواني والنباتي. ولم تستطع بعض الجماعات الابتعاد كلياً عن القربان البشري، فذهب نحو تضحية جزئية من جسم الكائن، مثل الختان كما فهمه فرويد بوصفه تضحية بالجزء بدلاً من الكل. وقدم المفكر “فالتر بنيامين” أحد مفكري مدرسة فرانكفورت تصوراً يختصر موضوعة العنف من خلال المعايشة التي أشرنا لها، مما أدى الى خسارة الكائن لرموزه وتخيلاته التي تعامل معها بوصفها المورث الممتد ارثا للآباء والاجداد، ومنها حازت اللحظة الآنية قداسة عند تداول الأساطير وممارسة الطقوس والعقائد التي تمثلها الأساطير التي وضعها فالتر بنيامين بيّنت الحكاية كيف للإنسان أن يمثل الغباء “ في وجه الاسطورة “(.....) وانا حكم درس علمته الحكاية الخرافية للبشر، من قدم الزمن، للأطفال، حتى يومنا هذا ــ هو ان يواجهوا قوى العالم الاسطورية بمكر وأرواح عالية. “اسامة السكوتي / “فالتر بنيامين “ بحثاً عمن لا صوت لهم”. تمظهر العنف في المرحلة البدئية بموت الإله، بدأت بقية الاوثان تنهار الواحدة بعد الأخرى. موت الانسان، التاريخ، النص، واندحار قصة الأصل، فقد انتهت الدراسات بشأن التوارة أن قصة الأب المشترك لليهود والعرب مثلاً (ابراهيم) في النص الديني قد بنيت بحيث عليها أن تثبت لقاء بقاء العرق بأية طريقة واقصاء الآخر «أبناء إسماعيل/ جاك دريدا / تفكيك في الثقافة العربية/ عبد الكريم الشرقاوي نقلاً عن ادوارد سعيد/ الهجينة، السرد، والفضاء/ الأمبراطوري».
ما ذكره جاك دريدا غير معطل بل مستمر لان الاخر وجد بأن التشارك معه بالاب الذي يمثل الاصل في بلاد النهرين محرماً على العرب، ففتحوا ثغرة العبودية على العرب والاقوام الموجودة في ذات الجغرافية وبلغت القسوة في الاب الممارس للعنف في عائلة اسماعيل، بعد ان اكتشف خيانة زوجة ابنه اسماعيل وامره بالطلاق. وانتبه القرآن الكريم لذلك إذ استعاد السردية التوراتية مع بعض التحويرات التي تعيد للعربي كرامته السردية “جاك دريدا” سبق ذكره. تكشف هذه التحليلات، أن كل جماعة تحتاج الى سردية الاصل لتشكل خطاب هويتها، فالسردية تستشعر المعنى الكامن في وجود كل شعب وكما يقول مطاوع صفدي:
إن الستراتيجية استشعار المعنى كانت دائماً وراء تجهيز المجتمع عرفت الديانة الذكورية القسوة من خلال الديانات تجاه الإلهة الأم وهي تحيل الى الشر والظلام والعالم الاسفل ويصمها بالقدم والرذيلة والموت . ووضعت المندائية الأم «هيا» في المجال الإيجابي بوصفها صورة أنثوية ذات شكل قرني “هي” ووضعها الجانب الإيجابي في عالم الظلام سيدة له. وتعد الافعى رمزاً للإلهة الأم والأفعى لاحقاً هي الدال على الشيطان الذي زاول الإغواء للمرأة.
ودائما ما كانت الأفعى في الميثولوجيا السومرية ذات خصائص مقدسة وحضور ايجابي. وهي رمز دال على الأم الكبرى وأيضا علامة على الإلهة العذراء . اشار د.سامي سعيد الاحمد إلى أن الشيطان معبود في عديد من الديانات ويمثل طاقة سحرية وتمتع بالحضور القوي في التيارات ذات العلاقة بالسحر وهو مخلوق من النار كما يمثل القوة السحرية الجبارة الموجودة في كل الأديان التي عرفتها المراحل التاريخية وهو” في مستودع السحر الكامن تحت ادمة الأديان يمور بقوى خفية وصادقة. ببرامج عقائدية، قد تأخذ صورة وأساطير الأولين، ثم الأديان ثم الايديولوجيات الحديثة، والحق أن كل هذه الأساطير والأديان والايديولوجيات، هي خطابات تدور حول بؤرة ميتافيزيقية واحدة هي خطاب الأصل والهوية وتفسير الأصل كما قال صفدي بوصفه نزوعاً مكيناً في الفكر الإنساني قاطبة كما تبين الانثربولوجيا. ويقول ميشيل فوكو إن الاصل يوضع دوماً قبل السقطة وقبل التجسد، قبل العالم وقبل الزمن.. نحن اختلافات فقط ــ عقلنا هو اختلاف الخطابات وتاريخنا هو اختلاف الأزمنة، وذاتنا هي اختلاف الأقنعة، إن الاختلاف هو هذا التشتت الذي نحن عليه والذي نقوم به.
مثل هذه الاختلافات أو البلبلة التوراتية التي غذتها الثقافة والخطابات لأهداف معروفة تكرس الهجنة وتحفز الصراع ومزاولة العنف، كل التباينات اختراقات للملمح والهوية والإنشطار وتكرر الصدامات الثقافية مرآة تكفي لإيضاح العنف الثقافي / الديني / الفني . نستطيع القول بديمومة العنف الذي اتخذ صفة السائل منذ قديم الزمان الذي انهارت فيه سلطة الإلهة الأم الكبرى واستمرار العنف سيرورة له تفضي للخلخلة والتشظي ومثلما قال د.عبد الغني عماد: قد تموت الثقافة، إذا تفكك المجتمع الذي يحملها عن طريق الفناء أو عن طريق الغزو، إذ قد يفرض الغازي ثقافته بالقوة او عن طريق الاندماج بثقافة أكبر وظهور ثقافة عديدة نتيجة الانصهار ثقافات قديمة، حصل هذا في الثقافة المصرية القديمة والفينيقية والاشورية والبابلية، لكن آثارها باقية. تعدد الهويات على حساب الهوية الوطنية هو الذي فتح فضاء العنف والاستبداد وديمومة العنف والدمار.