القارئ زهير بهنام بردى سوف يفتقد لما يسمى اليقين أو القناعات أو الانتماء لغير المختلف، هذا الخط الذي لم يكن يشكل فعلًا مستقيما تتحول الكتابة عبره لكتلة ضباب غير معنية بظهور الشمس أو غيابها.
لم يكن الإداء الكتابي للشاعر يشكل مجموعة عيوب،فهو يعمل من أجل الوصول لمحاسن الكتابة واللحاق بعبارة صافية وجملة لا تتكئ على سواها. الكائن الشعري الذي وجد ضالته في شخص الشاعر الراكض نحو دكة مايسمى التمرّد وعدم القناعة أو الكف عن متابعة برنامجه الشعري، الذي يقف خارج مواصفات الكثير من المتابعين حتى يبدو جسد القصيدة هو ذاته جسد الشاعر،وجسد المرأة/الأنثى والجسد المقدس.
بردى، شاعرٌ يكتب عن المتحول من تفاصيل الحياة والجسد والكائن الذي نطلق عليه ما نشاء من الأسماء والصفات، بدءًا من النطفة والجنين والخلية والذكورة والأنوثة مرورًا بالجثمان والجثث والرميم، بدءًا من القدرة على صناعة التعويضات والذهاب لابتكار البدائل ومصاحبة هذا الكائن لمئات الآلاف من الأعوام وتقلبات البدائية والتحضر وما بينهما من تمددات الأنهار/الأطيان والثورات والحروب والتحولات المجتمعية، الكائن/الجسد الذي قاوم واستجاب، الذي خضع ورفض، انتفض وثار، عصى وتجبّر، كان نبعًا وسيلًا للمتعة، كما كان مصدرًا للدمار والخراب.
حين يكون الجسد في حلٍّ من الاستجابة لقوانين ضاغطة يتحول لطوفان من اللامتوقعات.
زهير بهنام بردى، لا يكتب النص بتفرعاته وكتله، بكلماته وسطوره، وهو يعاين أو يواجه أو يتصادم مع السلطات اللاغيةرغم توفر أشياء من التواضع والموانع، ورغم أهمية التهجين الكتابي في تمتين لحظة الكتابة إلّا أن الصفاء يشكل ركنًا مهمًا من أركان الكتابة لدى الشاعر الذي يحاول أن يتخلصَ من الزوائد والعوالق.
جسد الشاعر رغم الحروب والمعتقلات والأحكام التي تصدرها محاكم التفتيش أو ما تسمى بمحاكم الثورة، ورغم الخيبات التي تملأ جسد الانتفاضات. جسده يسعى ليكون موقف العالم من الكائن الجسد أكثر اهتمامًا بالجمال وأقل انشغالًا بالقباحات، مما يسبب أضرارا كالأمراضالمستوطنة، فلا رقيب على ما يكتب رغم اشتداد حالات الانتقاء الحياتي، شديد الحدث هذا يتم لدى الشاعر بشكل شبه ممنهج رغم خطورة المنهجية في تحكيم دور الكتابة في احتفاء دور المعارف في انتقالات وتحولات يسترشد عبرها الشعراء لديمومة الاختلاف في الكتابة والتخلص من القوانين الحاكمة والمتحكمة بحركية الكتابة.
الجسد في -حضارة بصيغة الجسد-مجموعة أفعال لمكونات تتمركز خارج غريزة أنتجتها،إذ تشكل الفوضى أساس إنتاج التراتبية حين لا يكون وراءها نوع من الفكر والمعارف. فالشاعر رغم توفر فرص التصادم إلّا أنه يعمل بهدوء تام على تدمير التناقضات والتفرد فيما بعدها من اسسٍ تعتمد المرات الأولى للكتابة، عالم من عدم الاحتكاك بالآخر، والدخول في معترك لاحياتي فهو يتجنب التصادم ليبعد مادته الخام التي تستخدم للمرة الأولى من الاختلاط بمواد أولية مغشوشة وغير أصلية، بل وتحمل أسباب هلاكها وتفشي العوق في المفاصل التي لم يصل إليها الذبول، إلا أن الواقع يعلن عن حطب أغصانها وفساد ثمارها، حتى يحسب القارئ عتمة الشجرة حالة عافية، وما هي في الواقع الا اشتداد التقرن وازدياد كمية الخشب الواجب تحويله لمواقد أو لصناعة التوابيت.
الشاعر ورغم اللعبة/الدمية الروسية (متريوشكا) وما رافق فنانها ومستهلكهاوطبيعةالحياة/الشجرة على هندستها، إلّا أن المنجز لم يعلن عن التماثل أو التشابه ما بين مجموعة الدمى وطريقة تناسلها/تزايد أعدادها. لا ضمان لنسبية القول وتراتبية الملفوظات،وتكرار المعاني وهشاشة الأفكار، هنا لا فجوات في جدار الكتابة يستند إليها القارئ حين يبحث عن ردم فجوة هنا أو هناك، لا اختبار لما يمتلك القارئ بمواجهة ما يمتلك الشاعر.
لقد ساعد البناء الشخصي لفردانية الشاعر وعدم تشعّبه تحت ضغط القناعات رغم أهميتها، إلّا أنها تمثل حالات من التمزق الذي تفرضه الأنواع والأشكال والمادة والروح والأب والمقدس والدفاع عن الذات. كل هذه التفاصيل لا يجد فيها الشاعر مصادر مغادرة حقوله الخاصة والذهاب لحقول الآخرين.
استقلالية الكتابة في (حضارة بلغة الجسد)لاتضع القارئ في التيه بقدر ما تضع بين يديه مجموعة من مفاهيم وآلات وأدوات تضيء وتعلن عن موجودات حياتية بحاجة لمن يتلمسها ويفرك عنها -الزنجار-ويعيد إليها بريقها.إنّها سبيكة كلامية يحاول القارئ أن يجيد التعامل معها من خلال نسب المعادن التي تتشكل منها، معادن خاضعة وغير خاضعة للتأكسد والاندثار والتآكل تتحد وتتمازج مكونة المنتج الشخصي الخاص للشاعر.
هل جميع الشعراء بمقدورهم العثور أو تصنيع هكذا سبيكة؟
زهير بهنام بردى هنا، تتصاعد خصوصية الفرد في الكدح والجد والاجتهاد لعدم الخروج من حفلات الاختلاف -بخفي حنين- فصفاء الكتابة لا دلالة لها على سكونية وركود الفعل الشعري الذي يكتبه. الصفاء هنا منجز حياتي وإن لم يكن الأخير،إلّا أنه من منجزات رحيق الكتابة إذ يكون المنجز الأول البعيد عن تعقيدات وتأثيرات الآخرين.
لا يشكل الجسد لدى الشاعر قوةً قامعة، هكذا تشكل منذ البدايات الأولية، إلّا أن السلطات/الأفكار والمعارف المضادة تتحول لمقود تأخذ الجسد لعتمة حيث تنعدم الرؤيا ويتحول العالم لكائن أعمى. الجسدبكل ما لديه من سلطات لم يحدْ من تجارب الشاعر الكتابية في الخلاص من طرز وأشكال ومبانٍ كثيرا ما تتشكل من خلال المعاني والمعارف. فكل من الشاعر ومفروزاته، ما لهما إلّا الطائر الحر الذي ليس من السهل الوصول لأصوله، فهو ليس من بغاث الطير، إنه الكائن الذي قيل إنه قد دخل فضاء الانقراض وتم العثور عليه من قبل الشاعر نفسه، على شكل جينات أولية مجمدة ومحفوظة تمكن من خلاله أن يدخل تجاربه مجموعة من مختبرات إحيائية أثبتت أن الجسد هذا لم يكن وحيد الخلية، وإن الشاعر حين عثر مكتشفًا ما يمكن أن يكون الخلايا الجذعية الأولى، يحمل مبررات الحفر والتخصيب والتلاقح والتزاوج.
كل هذا من غير الذهاب لضجيج/ لمطحنة القرون للإعلان عن وجود جسد ما قادر على تقبّل التنازل والاستقبال،إذ لاحدود لتفاعلات تشتغل على صناعة أرواح تغزو أجسادًا فتكون من أفاعيل الشاعر، إذ يختفي كلياً ما يمكن أن يحصل في الجانب القراءاتي،إذ تشكل الكتابة أول الأفعال غير المشار اليها.