ثقافة الكاتب الأحاديّة

آراء 2020/12/21
...

     عطية مسوح*

 
 
يستطيع القارئ الحاذق المتمرّس أن يدرك مدى تمكّن الكاتب من الموضوع الذي يكتب فيه، ومدى اتّساع معلوماته عنه وعمقها، وهذا أمر سهل ويسير، أمّا الأهمّ منه والأصعب فهو أنّ القارئ الحاذق المتمرّس، قد يستطيع أيضاً أن يعرف أهمّ مصادر ثقافة الكاتب، وما إذا كانت هذه المصادر من لون واحد، أي منتمية إلى اتّجاه فكريّ محدّد لا تتعدّاه، أو متنوّعة الألوان والاتّجاهات. فأحاديّة الثقافة لدى الكاتب ستنعكس بالضرورة على مستوى كتابته وستتجلّى بمحدوديّة الأفكار وبساطة المعالجات وسطحيّة الاستنتاجات، ولعلّ أهمّ ما تتّسم به كتابة مثقّفي اللون الواحد هو الضحالة، فالمجرى الثقافيّ الواحد الذي استقى منه الكاتب، مهما يكن غزيراً يظلّ واحداً، يظلّ فاقداً التفاعل مع غيره من المجاري. قد يقرأ الشخص الكثير الكثير من الكتب ذات الاتّجاه الواحد، وقد يُلمّ بكلّ جوانب ثقافة هذا الاتّجاه، فيظنّ أنّه صار مثقّفاً مؤهّلاً لأن يكون كاتباً، وهو لا يعلم بأنّه يفتقر إلى أكثر ممّا يملك، وأنّ ثقافته الأحاديّة كوّنت لديه عقلاً أحاديّاً عاجزاً عن الإتيان بما يقنع القارئ، إلاّ إذا كان من نوعه تماماً . 
ثقافة اللون الواحد لا تُفْقِد حاملَها الثقافاتِ الأخرى فقط، بل تُفقِده ما لا يقلّ أهمّيّة عن ذلك، وهو القدرة على تنمية فكره الأحاديّ ذاته باتّجاهه ذاته، لأنّه يخسر معرفة التعامل الجدليّ مع الفكر، فتفاعل التيّارات الفكريّة المتنوّعة يزوّد المثقّف بآليّات تطوير الأفكار، ويجعله أقدرَ على التعامل الإيجابيّ مع فكره الذي يتبنّاه أو يميل إليه. وهكذا تمتدّ ضحالة الثقافة الأحاديّة من عدم معرفة حاملها الثقافاتِ المتنوّعةَ، إلى ضحالة ناجمة عن سوء تعامله مع ثقافته ذاتها.
 وإضافة إلى الضحالة، تتّسم كتاباتُ أحاديّ الثقافة بضعف المحاكمة العقليّة. 
لأنّ تنوّع مصادر الثقافة يقود الكاتب إلى نشاط فكريّ نوعيّ ومهمّ يمارسه وهو يكتب، وهو المقارنة والموازنة والترجيح، ويفتح أمامه باب تدقيق هذه الفكرة أو تلك في ضوء أفكار الآخرين. فاطّلاع الكاتب على معالجات تيّارات فكريّة متعدّدة لمسألة واحدة يضعه في أفق مفتوح، ويتيح له الإفادة من نقاط القوّة التي قد يجدها في بعض المعالجات، كما يجعله أقدر على مناقشة الأفكار المختلفة حول المسألة الواحدة بروح إيجابيّة قريبة من الموضوعيّة في الوصول إلى الأحكام والاستنتاجات . 
ومقابل الإيجابيّة والموضوعيّة لدى الكاتب ذي الثقافة التعدّديّة نجدُ التعصّبَ والتشدّد لدى أحاديّ الثقافة، ويعود ذلك إلى اليقينيّة التي يتّصف بها تفكيره، فهو شديد الاعتداد بما يتبنّاه، مُطلقُ الثقة بصوابه، رافضٌ ما يخالفه. إنّ الحقيقة عند الكاتب اليقينيّ ليست موزّعة على التيّارات الفكريّة بل محصورة بفكره واتّجاهه، فهو ليس في حاجة إلى البحث عنها، لأنّه وجدها مكتملة ناجزة. 
ولأنّه كذلك، لا يجد نفسه مضطرّاً للاطّلاع على ثقافة غيره، فتتعمّق أحاديّته، وتزداد ضحالته، وهكذا تغدو أحاديّة الثقافة سبباً للضحالة ونتيجة لها في الوقت ذاته.
 وتقترن اليقينيّة عادة بما يُسمّى (الثوابت الفكريّة)، وكثيراً ما نجد مثقّفاً أو كاتباً يعتزّ بأنّ لديه ثوابت ينطلق منها ويتمسّك بها وهي التي تحدّد مواقفه وتوجّه كتاباته. كما أنّنا كثيراً ما نسمع – على سبيل الإدانة – أنّ كاتباً من الكتّاب تخلّى عن ثوابته أو خرج عليها وتجاوزها. 
وإذا اتّفقنا على أنّ من أهمّ خصائص الفكر الفعّال هو توفّر النزعة النقديّة فيه، فسنجد أنّ اليقينيّة تُفقِد الفكر هذه الخصيصة، فالنزعة النقديّة ذات جانبين هما: نقد الذات ونقد الآخر، واليقينيّة تحصر النقد في اتّجاه واحد هو نقد الآخر، لأنّها تتوهّم أن الذات هي في جادّة الصواب. والمشكلة أنّ نقد الآخر ينطلق من الثوابت الفكريّة المتوهّمَة، ويهدف إلى إثباتها، وهذا ما يجعل أفكار الكاتب اليقينيّ ذي الثقافة الأحاديّة يدور في حلقة مفرغة، فهو ينطلق من ثوابته ليعود إليها.
 لقد بيّنت الحياة أنّ مرونة الفكر هي مصدر حيويّته، وأنّ تحوّل فكر ما إلى عقيدة كثيرة الثوابت يُفقده خصائص المرونة، ويغلقه ويعزله عمّا يجاوره من أفكار مختلفة أو مناقضة، ويجعل "ثوابته" أهمّ ما فيه، ولن يكون ذلك في النهاية مفيداً للحركة الفكريّة والثقافيّة في المجتمع . 
ليست الثوابت الفكريّة مفخرة ومصدر اعتزاز، فالفكر الذي يحمله كاتب أو مثقّف أو حركة سياسيّة يكون أكثر قدرة على الفعل وقابليّة للتطوّر والاغتناء كلّما كانت ثوابته أقلّ ومتغيّراته أكثر. ومن الصفات التي ذكرناها، أي الضحالة وضعف القدرة على المحاكمة واليقينيّة والتعصّب، تأتي النتيجة الكبرى لأحاديّة ثقافة الكاتب، وهي أنّ نصّه يجيء ممتلئاً بالأحكام القاطعة، والاستنتاجات الحاسمة، والحقائق المطلقة المتَوَهّمَة، أي إنّه يأتي نصّاً مغلقاً.تعدّديّة ثقافة الكاتب تنتج نصّاً مفتوحاً، يتضمّن أفكاراً أكثر ممّا يتضمّن أحكاماً، ويثير أسئلة أكثر ممّا يقدّم أجوبةً، ويفسح للقارئ في مجالات المناقشة والتعارُض أوسع وأوسع، ويتيح له إعادة إنتاج النصّ في ذهنه وفق فهمه 
ورؤاه. وشتّان بين نصّ مفتوح يحرّك العقل ونصّ مغلق يُعزّز سكونَ التفكير، أي شتّان بين كاتب ذي ثقافة تعدّديّة المصادر وآخر أحاديّ الثقافة!
 
 *كاتب وباحث من سوريا