تفكك الأسرة وانهيار المجتمعات

آراء 2020/12/22
...

  د.سلامة الصالحي

 
 
في مقالنا السابق أعطينا تصورا عن تماسك الاسرة وقوتها والذي يؤدي الى تماسك المجتمع وكيف بغياب هذا التماسك تنحدر قوة المجتمع ويصبح منتجا للظواهر السلبية، التي تؤدي الى سقوطه وتخلفه عن ركب الحضارة وورشة التطور الكونية، التي تشارك فيها اغلب شعوب المعمورة، وأوضحنا أن من الاسباب الرئيسة لتفكك الاسر وهزيمة المجتمعات هي الحروب وانهيار الاقتصاد الذي يعقبه التراجع الثقافي والمعرفي وغياب تطبيق سلطة القانون وقوته وشيوع روح القبيلة ومايتخلف عنها من مظاهر مشينة وسلوكيات جائرة، تعطي صورة قبيحة عن تخلف المجتمع وضعف الدولة، واتضح هذا مرات عديدة بـ»الدكات» العشائرية واستخدام السلاح جهارا نهارا وتحت أعين قوات الامن ووجودها،هذه المظاهر المتخلفة والتي تطور تخلفها العنفي باستخدام أسلحة ومقدرات دولة وترويع سلام المجتمع وهدوئه، ما يقودنا الى البحث عن أسباب هذا التراجع الاخلاقي والسلوك الشائن بين أبناء المجتمع الواحد واعتدائهم السافر على بيوت الناس وترويعهم، أول هذه الاسباب، الفساد المستشري كالسرطان في مفاصل الدولة التي أنتجها هذا المجتمع وانعدام العدالة وغياب دور المجتمع المدني ومؤسسات الدولة المدنية في مراقبة الحاكم والمحكوم والحد من هذه السلوكيات، التي تسحق هيبة القانون والدولة ولاتقيم اعتبارا لأمن المجتمع.
 أما كيف تتفكك الاسرة التي هي الوحدة الاساسية للمجتمع والمنتجة لهذا المجتمع من أفراد وعاملين في مؤسساتها، التي من المفترض ان تقوم بخدمتها، اي مبدأ تبادل المنفعة والتخادم، الذي نصت عليه القوانين الشرعية والوضعية، وهذا ما نود الاشارة اليه ودق جرس الانذار، بعد أن حدثت في مجتمعنا أحداث يندى لها الجبين بغرابتها وشذوذها وفزعها ولنكن واقعيين وصريحين مع بعضنا ونشير الى الداء، بعد ان تحول الى ما يبدو عضالا ان لم يكن قد تحول كذلك، وبعد شيوع حالات كثيرة تدعو المراقب الى النظر بريبة وتوجس الى المستقبل، وقد تكون مدعاة للتفكير بالهجرة او العزلة والانغلاق على الذات ان لم تتوفر سبل الهجرة، لحماية نفسه وابنائه، مما يحدث وهنا يجب أن تتعالى الاصوات، في ايقاف هذا الدمار الخفي والظاهر، من عنف مجتمعي يصل أحيانا الى حالات غريبة من القتل وايذاء الاسرة على يد أحد أفرادها وقد يمتد هذا الايذاء الى المجتمع وقد امتد فعلا.
لايمكن فصل المجتمع عن الدولة، فهي نضحه وصورته المنعكسة في الاحداث والوقائع، والاسرة هي المنتجة الاولى لهؤلاء الافراد الذين يقودون ويعملون في مؤسساتها الصحية والتعليمية والتشريعية والقانونية والعسكرية، ويبدو أن تراجع الوعي وانهيار الحس الثقافي الحقيقي وتداخل الافكار السلبية وشيوع مبدأ فلسفة تمجيد الرذائل، قاد هذا المجتمع الى أن يكون ضحية وفاعلا في انهيار الاقتصاد، الذي انتعش بعد الاحتلال، ولم يدم ربيع انتعاشه القصير طويلا بعد سرقة أموال الدولة والتغالب بين الناس حاكم ومحكوم في التحايل على القانون وأمتداد وتطوير أساليب سرقة المال العام التي بدأت شرعنتها منذ سني الحصار الجائر في التسعينات والذي وقعت في فخ هذا التسليم والقبول الكثير من الناس، التي كان هناك رادع يمنع سقوطها المحتوم، وامتد هذا الاخطبوط وتوسع وصار يمشي بأريحية وفخر أمام ناظري الناس، وهم يمجدون ويحترمون لصوصهم، ضاربا كل أسس المجتمع الصحيحة، مؤديا الى تصدعه، فانهياره الذي بدا واضحا بهذا الكم الهائل من اللصوص والسراق والقتلة، ومنهجة هذه اللصوصية وشرعنتها عبر الالتفاف على القوانيين واستخدام الحيل الشرعية المخجلة والخبيثة، مستغلين تراجع الوعي ونكوصه والذي تخلف للأسوأ لدى كثير من الناس بقصد أو من دون قصد.
وكان لغياب العدالة والمساواة في توزيع الثروات والمناصب وغياب حقوق الفرد الانسانية والاجتماعية نشوء طبقة غريبة من الاثرياء الجدد الذين اغتنوا بعد الاحتلال ونهب البنوك ومؤسسات الدولة من أسلحة وآثار وعملة صعبة والتجارة بالممنوعات، اضافة الى استغلال المنصب، الذي تجاوز الامتيازات الجائرة وتسربت من خلاله مليارات الدولارات، التي كان من الممكن لو انها استخدمت لبناء البلاد والانسان أن تبني مجتمعا سويا وصحيا، وهذا كان من نتائج تفكك القيم، التي تحمي الفرد والاسرة وتحمي المجتمع بدورها،هذا اللا توازن في بنية المجتمع، جعل هناك من الهواجس والخوف من المستقبل يستولي على كثير من الناس، فتخلت عن قيمها وسمحت لنفسها بارتكاب ما يمكن أن نسميه تجميل الخطأ واحترامه، فصار الفرد يشعر أن من حقه ان يسرق الرصيف ليعيش، ومن حقه ان يسرق المواطن أخاه، ليعيش ايضا وصار هاجس الثراء السريع مقيتا وبغيضا ومخجلا، بدءا من المعلم الى الطبيب الى المهندس الى الصيدلي الى صاحب المختبر الى.. شبكة من التشابك والافتراس المجتمعي، ضحيتها الفقراء والمتعففون عن المال الحرام، والذين يعيشون في تقشف، قانعين بما أعطتهم الحياة ولا يفكرون بسرقة أوطانهم والاحتيال عليها، وبعد أن تحولت الاسر الى منتجة للخلل ومربية للسلبيات ومانحة لهذا المجتمع أفرادا نزقين مفتقدين للحس الاخلاقي والانساني، الذي أدى الى شيوع حالات الخطف والسطو المسلح والابتزاز والرشى، والغريب أن هذه الاسر المنتجة لهؤلاء الافراد تحرص على اقامة الطقوس والشعائر الدينية والادعاء بالتقوى مظهرا لا حقيقة، لتغطية خطاياها وموبقاتها، وبعد أن مضت سنينا طويلة على هذه المظاهر الزائفة، بدأ وعي الناس يتحرك، وصرخ الكثيرون بوجه الفساد الذي تمثل بالحاكم والمحكوم، فتفشي ظاهرة الدروس الخصوصية والمعاهد الاهلية، تشير الى خلل كبير في المنظومة التعليمية، وكذلك كثرة الكليات والجامعات الاهلية، التي صارت مجالا لغسيل الاموال وانتاج معرفي هزيل، والصيدلي الذي يتفق مع الطبيب على الاطاحة بجيب المريض من دون وازع من ضمير، ذلك يشير الى انهيار وسقوط اهم مؤسستين تعنيان بصحة وتعليم الفرد، من ذاك، جاءهذا، اي ان المجتمع هو نفسه صار منتجا لهذا المرض وبالوقت نفسه يعاني منه، الاصلاح يبدأ من الذات والابناء والاسرة ويمتد الى
 المجتمع.....يتبع