الناصرية.. سيرة المواقف الصعبة

ريبورتاج 2020/12/22
...

   احمد داخل

تمضي السنون وتتغير التواريخ وتشيخ الأنظمة وتتبدل، لكن الذاكرة لا تشيخ، وتبقى طرية بما حفظت، فالمدرسة الشفاهية تبقى شاهدة، لتنقل لنا القصص والاحداث وحكايات الأسلاف، لا سيما الوطنية وتوثق ما سقط عمداً أو سهواً من سلة التاريخ الرسمي، (الشجرة الخبيثة) حكاية لها دلالات حفرت في الذاكرة المتخيلة لأهل الناصرية، وهي عبارة أطلقها المحتل البريطاني يوم حاول المرور عبر مناطق الازيرج في 1916، فانبرت فوهات بنادق الثوار الذين كانوا يعتلون شجرة كبيرة، فحطموا غرور المحتل وكبدوه خسائر بشرية، فنادى قائدهم اقطعوا هذه الشجرة (الخبيثة)، لم يدرك ذلك المحتل أن هذه الشجرة عصية وعنيدة على الغازي، لكنها تفوح بالطيب والوفاء لمن يقصدها ضيفاً عزيزاً.
 بداية المواجهة
يقول الشيخ حميد جبر كاطع البطي شيخ عشيرة الازيرج "بعد خسارة الثوار العراقيين في معركة الشعيبة ضد المحتل البريطاني في معركة غير متكافئة في العدة والعدد، تراجعت العشائر الثائرة إلى المدن واتفقت على ميثاق شرف، بينها مفاده  عدم السماح للقوات البريطانية بالدخول إلى مدنها أو المرور عبر مناطقها باتجاه الكوت"، ويسترسل بالحديث فيقول: "حصلت مواجهة بين البريطانيين عند مدخل الناصرية من جهة نهر الفـــــــــــــــــــــرات، وتصدت لهـم عشائر العساكرة والحسينات وعشائر أخرى، واستطاع الثوار أن يعطلوا تقدم القوات البريطانية ويكبدوها خسائر بالأرواح والمعدات، وإغراق بعض المراكب التي تقل الجنود والأسلحة في نهر الفرات".
 
 باهيزة 
هي مساحة من الأرض، اليوم لا توجد فيها إلا بضع أشجار نخيل يابسة، لكنها في يوم ما كانت الحد الفاصل بين الثوار من أبناء الناصرية والبريطانيين الذين يئسوا من اجتيازها بالقوة، لانها كانت مزروعة بعيون الرجال، هكذا وصف الشيخ حميد البطي باهيزة واكمل: "حاولت القوات البريطانية الغازية المرور بالناصرية باتجاه الكوت في منطقة تل الغوازية، وكان لا بد لهذه القوات أن تخترق عشيرة الازيرج وعبر أراضيها لكن أبناء العشائر تصدوا لها واجبروها على التراجع إلى الناصرية في اليوم الأول، وتكرر المشهد في اليوم الثاني وخسرت القوات البريطانية أيضا العديد من جنودها ومعداتها وتراجعت"، ويتابع الشيخ حميد حديثه فيقول: "أدرك أبناء العشائر مكر المحتل وانه عمل على زيادة عديد قواته وأسلحته، ليعاود الكرة من جديد في اليوم الثالث من اجل العبور، فقام أبناء العشائر باغراق الأرض التي تحيط المعركة بالمياه وهي منطقة البطنجة، وهي ارض منخفضة للحيلولة دون عبور القوات البريطانية، وفعلا حصلت مواجهات، ولاقى المحتل مقاومة عنيدة من أبناء الازيرج بفروعها ومن العشائر الاخرى، وكبدت المحتل خسائر بالأرواح والمعدات واستولت العشائر على الأسلحة واسرت عدداً من الجنود".
 
تكتيكات جديدة 
يتابع الشيخ حميد البطي حديثه "حاول المحتل البريطاني استخدام تكتيكات جديدة، الغرض منها كسب الوقت وتأمين وصول قواته إلى الكوت، باستخدام طريق بديل، وهو طريق الشطرة القديم عبر السهلان، ففشلت تلك المحاولة لأنها لاقت مقاومة من أبناء العشائر، ثم مال المحتل البريطاني إلى إتباع أسلوب التفاوض، وكان مفاد شروطه هو: مرور القوات الغازية من دون أن تعترضها العشائر، وإخلاء جثث قتلاهم من ارض المعركة، ووعود بتقديم خدمات للمناطق الريفية ومنها كري الأنهر وغيرها، وامتنع الشيخ كاطع البطي شيخ عشائر الازيرج الذي كان على رأس هذه المواجهة في بادئ الأمر، وأبى أبناء العشائر ذلك وانشد احد الثوار الشاعر ملا صالح أهزوجة وهي: (شرناها وعيت باهيزة) وردد الثوار تلك الأهزوجة ومفادها، حتى الأرض التي دارت فيها المعركة(منطقة باهيزة) ترفض التفاوض مع المحتل البريطاني، لكن مجريات الأحداث فرضت غير ذلك، فبعد هذه المعارك قدمت العشائر تضحيات وشهداء في معارك غير متكافئة في العدة والعدد، ولإصرار القوات الغازية حصل التفاوض وأرسل الشيخ كاطع البطي ساعده الأيمن للتفاوض وهو الشيخ محسن النياز، كذلك طلبت القوات البريطانية باخذ رهائن من الثوار بشكل مؤقت حتى تؤمن سير قطعاتها من دون أن تعترضها قوات العشائر الغاضبة ومن ثم يتم إطلاق سراحهم، وهم: حميدي الغافل ومطشر آل عكال وعليوي المطشر، لكن لم تفِ القوات البريطانية بوعودها بل أخذتهم أسرى".   
 
 الجسر المكسور
اصطلاح عسكري أطلقه المحتل البريطاني مجازا للتعبير عن فشله في اجتياز قبيلة الازيرج بالقوة،  وتكبيده خسائر فادحة في معارك باهيزة، يتذكر الشيخ عيسى علي عليوي المطشر شيخ المحمود ما نقله أبوه عن جده، الذي كان احد الثوار فيقول: "بعد أن خسرت القوات البريطانية المعركة فكر المحتل بحيلة في واحدة من الاعيبه، حين يشعر بالهزيمة في المعركة، اذ حاول تغيير مساره عبر طريق آل سهلان والبو يوسف والبو خضير لعله يجتاز ويصل الشارع الذي يوصله إلى الكوت، لكنه واجه مقاومة عنيفة من قناصي الثوار الذين زرعوا على طول المنطقة والقسم الاخر من الثوار كانوا يعتلون شجرة سدر كبيرة، فأربكت تحركهم واعادتهم إلى الوراء، يقول المطشر "نقل لي احد الأشخاص الذين زاروا المعهد البريطاني للدراسات الحربية، والذي يؤرشف المعارك التي خاضتها القوات البريطانية، قولاً لأحد القادة البريطانيين واعتقد هاملتن، هو (cut down this sinister tree) بمعنى  اقطعوا هذه الشجرة الخبيثة، يقصد تلك الشجرة التي اختبأ خلفها الثوار وأربكت تحرك القوات البريطانية وكبدتهم خسائر بشرية واعادتهم إلى الوراء، وأجبرتهم على اتخاذ أسلوب آخر وهو التفاوض".
 
وعود إنما سراب
ويتابع الشيخ عيسى المطشر حديثه "ظلت وعود البريطانيين سراباً وهذه هي نيات المحتل الغربي المبطنة يقول شيئاً ويفعل شيئاً آخر، فبعد التفاوض اخذوا رجالاً من عشائر الازيرج كرهائن من اجل تأمين سيرهم والمرور، لكن بعد أن انتهت المعارك اخذ البريطانيون هؤلاء الرهائن كأسرى حرب". مضيفاً "لكن جدي الشيخ عليوي استطاع أن يفلت من قبضة القوات البريطانية التي أخذته بعد أن علم بنواياها المبيتة، واستطاع أن يعود إلى أهله سالماً، ليواصل التصدي للاحتلال البريطاني حتى بعد دخوله العراق".
 
غارات مستمرة على المحتل
يواصل الشيخ عيسى حديثه "لم تنته المعارك ضد المحتل البريطاني بعد أن تم احتلاله للبلاد ظلت قواته غير آمنة من المرور في أراضي القبيلة، فكان الحاكم السياسي البريطاني في الناصرية آنذاك يرسل إلى شيوخ العشائر رسائل تحذيرية تتضمن فرض غرامات على العشائر المنتفضة والتي تعترض دوريات الاحتلال، وكانت اغلبها تتضمن ألف بندقية ومئة رأس غنم وهي باهظة الثمن في ذلك الوقت من اجل رضوخ العشائر وعدم المساس بقواته".
 
للقصة بداية
يذكر الاكاديمي الدكتور جلال شنتة جبر وهو ابن المنطقة التي دارت فيها المعارك مع المحتل البريطاني آنذاك، سبب اصرار القوات البريطانية  على اجتياز حاجز باهيزة بالرغم من الخسائر التي منيت بها من اجل عبور منطقة الازيرج بسلام والتوجه صوب الكوت، اذ كان الغرض 
من ذلك تدارك القوات البريطانية التي حوصرت في الكوت من قبل الأهالي وعشائر الكوت والقوات العثمانية، وان خسارة البريطانيين في معارك باهيزة أمام الثوار من أبناء عشائر الناصرية كلفتهم  الاستسلام في الكوت الذي دام لشهور، ويتابع جبر حديثه "إن الاحتلال البريطاني تحرك بمحورين، محور يمر بمحاذاة نهر دجلة عن طريق مدينة العمارة، ومحور آخر يمر بمحاذاة نهر الفرات، لكن القوات البريطانية تعطلت في شمال الناصرية عند عشائر الازيرج، ودارت معارك طاحنة في منطقة باهيزة استمرت لأيام انتهت بالتفاوض".
 
دروس وعبر
ويقول الدكتور والأكاديمي جلال شنتة جبر "ثمة عوامل ساعدت في إصرار العشائر الثائرة على عدم السماح للمحتل البريطاني بالمرور عبر أراضيها، ابرزها  فتوى الجهاد التي صدرت من النجف ورسائل علماء الدين، لا سيما آية الله الشيخ كاظم اليزدي إلى شيوخ العشائر، ومنهم الشيخ كاطع البطي شيخ عشائر الازيرج، وخيون العبيد شيخ عشائر العبودة، التي تحثهم على مواصلة الجهاد وقتال المحتل البريطاني، فضلا عن الحس الوطني لدى العشائر العراقية الثائرة، وعدم السماح للمحتل بدخول أراضيها ومقاومته، وادى ذلك لخسائر بالأرواح والمعدات، صحيح إن تفوق القوات الغازية بالعدد والأسلحة المتطورة واستخدام الطائرات مقارنة بأسلحة العشائر الثائرة البسيطة كالمدي والخناجر و(المكوار) والبنادق البسيطة، حسم الأمر لصالح المحتل في نهاية المطاف، لكن المقاومة أظهرت بسالة قوات العشائر ومجموعة من الثوار من جميع حمائل الازيرج من البو حميرة وعلى رأسهم عفراي الشلال، والمحمود وكان على رأسهم عليوي المطشر، والبو خضير وكان على رأسهم ذرب الخضير، والسهلان وعلى رأسهم عباس المورد، وآخرين من ثوار الازيرج، ومن العشائر الأخرى، وظلت جذوة ذلك النصر والتصدي تتبلور شيئاً فشيئاً، حتى تكلل ذلك باندلاع ثورة العشرين مطلع القرن الماضي ضد الاحتلال البريطاني".