(1)
شاءت الصدف أن يجلس بجانبي ـ سنوات ما كان يعقد في البصرة (ملتقى السيَّاب الشعري) أواخر الثمانينات ـ رجل وقور، عرَّفني بنفسه على أنه من أبناء عمومة الشاعر الخالد (بدر شاكر السيَّاب)، كان يبتسم ـ وهو يصغي إلى حديث أحد الأساتذة عن الشاعر ومكانة المرأة في شعره ـ ويهز رأسه بحركة توحي بعدم رضاه عما يقال، وحين وجدني منتبهاً لحركته همس لي: هذا الذي يقوله الأستاذ عن علاقة السياب بـ (وفيقة) ليس صحيحاً. ولما انتهى المحاضر من عرض ورقته وجدتها فرصة كي أستفسر منه عما قال، فأجابني بثقة هادئة: لقد كانت (وفيقة) بمثابة (عمة) للسياب، كونها ابنة عم أبيه. وهي تكبره بأكثر من عشر سنوات، وقد توفيت مبكراً.
(2)
تناولت حياة السيَّاب وشعره دراسات كثيرة يستوقفنا منها هنا ما كان له تعلّق بحديث (وفيقة) وما كتبه السيَّاب من قصائد عنها: (شباك وفيقةـ 1) و(شباك وفيقة -2 ) و (حدائق وفيقة)، تلك الدراسات التي راح كتّابها ينقلون عن بعضهم أن (وفيقة) كانت من بين حبيبات السيَّاب، على تفاوت في تناول
الأمر.
ورد ذلك عند (عيسى بلاطة) في كتابه (بدر شاكر السيَّاب، حياته وشعره، ص65) معتمداً فيه على رسالة وردته من (مصطفى السيَّاب) الأخ الأصغر للشاعر المولود بعده بست سنوات. وكذلك كان الأمر مع الدكتور (عبد الرضا علي) في كتابه (دراسات في الشعر العربي المعاصر، ص76) . واستعادت (نبيلة الرزاز) في كتابها (بدر شاكر السياب ـ حياته وشعره،ص60) الحديث نفسه، ولكنها لم تجزم أن ذلك كان حباً بقدر ما أن السياب رأى في (وفيقة) شبها ذكّره بحبيبته الراعية (هالة) التي هجرته وتزوَّجت غيره.
ويقتبس (حسن توفيق) في كتابه (شعر بدر شاكر السياب ـ دراسة فنية وفكرية، ص49) ما أورده (عيسى بلاطة)، فيؤكده،ويضيف إليه أن السياب "لم يجرؤ على إعلان ما يضمره من حب لوفيقة بحكم ضراوة التقاليد الريفية والأسرية، ولهذا لم يصرِّح باسمها مطلقاً في قصائده المبكرة، فراح يُكني عنها باسم (هند) في قصيدته (على الشاطئ) التي نظمها عام 1941م، وعدها الدكتور(إحسان عباس) في كتابه المهم (بدر شاكر السياب، دراسة في حياته وشعره، ص29) أقدم قصائد
السياب.
غير أنَّ (حسن توفيق) يعود في مكان لاحق من دراسته لينقل بعض ما كتبته الشاعرة العراقية (لميعة عباس عمارة) في مقالتها (ظاهرة وفيقة في شعر السياب)، المنشورة في مجلة الأقلام (العدد الأول، كانون الثاني 1971م، ص12).التي تؤكد فيها أنها هي المعنية في تلك القصائد لا وفيقة. معللة الأمر بأن السياب يستخدم اسم وفيقة فقط وينسب لها ذكريات غيرها لأنه زوج مخلص، وإن اختيار امرأة ميتة لا يمكن أن يمس كرامة العلاقة
الزوجية .
وتتساءل وهي تقف على بعض أفكار تلك القصائد: "لماذا يبدو ظل وفيقة التي عرفها صغيراً أسود؟. أشباح الموتى عادة تبدو بيضاء، فهل للون الأسود علاقة خاصة.؟ ربما كانت وفيقة تكثر من لبس الأسود لحزن... لكن العودة للعطور والضحكة التي لا تنسى والكف المعطرة التي مسحت جبين الشاعر كل تلك الأمور لا تصلح لوفيقة".
(3)
لعل السياب أكثر شاعر عربي حديث تماهت شاعريته مع تفصيلات حياته، واستمدت منها معظم ما تحقق لها من مكاشفات شعورية وعاطفية، ومضامين اجتماعية وسياسية كذلك، أعاد السياب انتاجها ـ بمهارة الفنان الفذ فيه ـ نصوصاً شعرية هي الأبرز في منجزه الشعري .
لقد جعل من ذكرياته وشؤون حياته المختلفة ما يدعو القراءة أن تعود لتنقب في بعض تفصيلاتها لتكاشف التلقي بما اندس منها في هذه القصيدة أو تلك.
والسياب صانع رموز لا يجارى استمد بعضها من تلك الشؤون التي تخصه وتندس عميقاً في وجوده وذكرياته كـ : (جيكور)، (بويب)، (منزل الأقنان)، ثم (وفيقة) التي يأخذ بنا اسمها إلى استعادة ما كان السياب قد أورده في شعره من أسماء نسوة كثر، كان بينهن من تعلق بها وأحبها فعلاً، ومن وردت مجرد اسم عابر. ولم تكن وفيقة من بين كلا الفئتين.
سيلاحظ المستقرئ لشعر السياب أنه لم يذكر(وفيقة) إلا في قصائده التي كتبها سنة 1961م ـ أي قبل وفاته بثلاث سنوات ـ وهي السنة المنضوية ضمن مرحلة مكابدته المرض وأوجاعه، والبحث عن وسيلة للشفاء منه، والانشغال بالرموز التي تتماهى مع ذلك وتجسده .
لقد ندّ اسم (وفيقة) فجأة، ليهيمن ترداده في تلك القصائد الثلاث التي تعد من بين قصائد السياب الناضجة بما هي عليه من امتلاء تعبيري مؤثر.
لم يذكر السياب (وفيقة) ليستعيد ما كانت عليه من سمات وجود أنثوي، أو ما كان له من مشاعر حب نحوها. لقد جاء تذكره لها بعد مدة طويلة من موتها، ليبعثها وهي ترفل في حدائق العالم الآخر:
لوفيقه / في ظلام العالم السفلي حقل
فيه مما يزرع الموتى حديقه
يلتقي في جوها صبح وليل / وخيال وحقيقة.
وفي هذا العالم المشتجر بمكونات الطبيعة تتراءى وفيقة، وهي:(تتمطى في سرير من شعاع القمر/ زئبقي أخضر).
وسنكتشف ـ مما دوَّنه السياب من توثيق تاريخي ومكاني لتلك القصائد ـ أنه كتبها وهو في قريته (جيكور)، وقد ألمت به أشتات من ذكريات ماضيه، ليستعيد في قصيدته (شباك وفيقة) وجودها من خلال تذكر شباك غرفتها المطل على فضاء القرية، الذي تخيله وهو لايزال منتشياً بأيام كانت تجلس خلفه.
وحين يتأمل السياب ما يهيمن على وجوده الراهن من أسى واغتراب ومرضيخاطب (وفيقة) ـ كما هو دأبه في القصائد الثلاث:
(وماضيك من حاضري أجمل)
وهكذا فقد جاءت تلك القصائد مشبعة بفكرة الموت، موت وفيقة المبكر الذي بدا وكأن السياب يستشرف من خلاله صورة موته المقبل الذي لا عودة منه :
وهيهات أن ترجعي من سفار/ وهل ميت من سفار يعود؟.