تفتيت المثقف ومصادرة الحاضر

آراء 2020/12/23
...

  د. حيدر ناظم
وضع ميشيل فوكو مسألة "الحاضر" في مركز التأمل الفلسفي ، باعتبار ان مهمة الفلسفة - كما يعتقد - لا تتمثل في البحث عن شروط تشكل الحقيقة ولا معياريتها، بل في القيام بمهمة وحيدة " ان تقول لنا ما هو حاضرنا " فتغدومهمة الفيلسوف الأساسية، تشخيص الحاضر وتقديم قراءة نقدية للراهن.
ليست الثقافة سوى الشكل الاكثر عمومية وسيلاناً للمعرفة، الوجه الآخر غير المقنن للمعرفة، الوجه الذي طالما احتل مساحة مؤشكلة للسجال الذي جاء من الشكل الاكثر مباشرية لفاعلهِ في الواقع، المثقف، لكنه فاعل طالما امتاز بالتوتر والقلق والاضطراب، فشكل العلاقة بين المثقف والثقافة يعلن عن تساوق غير مضمر لشكل العلاقة بين المعرفة والسلطة، فمن جهة ارتبط المثقف بدور وفاعلية تشغيل القوة، ومن جهة أخرى، العمل على مقاومتها، لكن المثقف في نهاية المطاف ليس سوى تعبير عن واقعه وجماعته التي ينتمي اليها، ألا ان ما يمتلكه من قدرة على اعادة صياغة وعي الجماعة بطريقة عقلانية قابلة للتداول معرفياً، هو أساس سلطته المفترضة، 
وهذا ابرز معلم وحد للثقافة، اي اعتبارها مجمل النشاطات والسلوكيات البشرية في مجتمع ما، تاريخية، سياسية، دينية، اقتصادية، رمزية، هي مجمل تفاعل كل تلك الميادين، واذا كانت الثقافة كذلك، وكان المثقف هو من يزود الاخرين بأطر عقلية لفهم وتفسير العالم، كما يؤشر ذلك ميشيل فوكو، وهو- اي المثقف - المهندس والمعلم والعالم، والاستاذ الجامعي، المحامي، الحرفي، الفنان، الأديب، اذا كان هذا هوالمثقف، وكان كل هؤلاء هم من يجب ضمهم لخانة الثقافة، فلماذا تلفظ الثقافة اليوم انفاسها الأخيرة؟ ولماذا المثقف اليوم يقف عاجزاً، بين العجز المدفوع بأسباب ايديولوجية خالصة، وعجز يعود لاسباب ابيستمولوجية تعبر عن العجز الكامن في ذات المثقف، اوعجز بسبب الذهنية الشايلوكية والانتهازية للمثقف 
ذاته! 
ان المهمة الكبرى للمثقف اليوم هي قول الحقيقة، وفضح السلطة وكشف زيف الشعارات التي تبثها عبر الفضاء الأثيري الذي تستحوذ عليه تلك السلطة الغاشمة، ان وظيفته هي تشخيص مكامن القوة للسلطة، وآليات عملها، فكيف اذا تحول الى اداة طيعة لها! 
اذا كان سارتر يصف المثقف بالذي يدس انفه في كل شيء، فلماذا اصبح الكائن الذي لا يهتم بأي شيء، سوى مصاهرة خطاب السلطة، والتودد لها ومغازلتها، عبر اقصاء وتخوين الآخرين، بل وتكفير المناوئين؟! اذا كان الحارس والقائم على قول الحقيقة والمؤتمن على فضح انتهاكات السلطة عبر استقصاء الحاضر، ينتمي للخطاب المؤدلج الذي يرسم مسارات التحالف بين المعرفي والسلطوي، فمن يا ترى سيقوم بفضح وقول الذي يحدث؟ وكيف لا تتحول الثقافة الى مجرد شعارات جوفاء شبيهة بممارسات الحزب القائد! والقائد الضرورة والحزب الضروس! 
اذا كان المثقف هوالمعبَر المباشر للثقافة بوصفها مجمل الممارسات والنشاطات العقلية والعملية والفنية للمجتمع، اقول اذا كان هذا الكائن قد ارتمى في احضان السلطة يتقلب ذات اليمين وذات الشمال، فكيف لا تكون الثقافة مصابة بالعوز المناعي والنزف الوراثي لتراثها ورموزها وآلياتها وعناصر قوتها، وكيف لا تتحول الثقافة الى اسطوانة تراثية مهشمة غير قابلة 
للاستعمال؟ 
كان المثقفون في السابق جذوة نار التغيير، يستشرفون المستقبل يحذرون من الذي يحدث عندما يحدث ما هو خاطئ، اليوم يبررون للأخطاء، ويسوقون الحجة تلوالاخرى دفاعاً عن جهة او جماعة لا تمتلك ادنى وعي في ابسط ادبيات الثقافة اوالمعرفة، ان القاء نظرة خاطفة على ميكانزمات التغيير الاجتماعي تزودنا بفهم غير قابل للشك، في ان أية عملية للتغيير وفق القرائن والمعطيات شبه مستحيلة، لان الواقع الاجتماعي المتردي ومستوى الوعي الذي نعول عليه لإحداث عملية التغيير لا يمكنه القيام بأية عملية بسيطة للتغيير كخطوة لاحقة للفهم، كونه جزءا من هذا الواقع وهومن افرزه، فهو شريك في صناعة الواقع عبر مهادنته ووقوفه على ما يمكن ان ندعوه الأدلجة المتسترة بالحياد! نعم اتبنى مفهوم ماركس للتغيير، فليس الوعي سوى افراز للواقع وهذا الأخير يعبر عنه من خلال الوعي ايضاً، فالواقع من يحدد شكل وطبيعة الوعي، اما كيف يتشكل الواقع، فهو عبر الممارسة التي أخذت السلطة بزمامها! ليس علينا القاء اللوم على طبيعة وبساطة وعي الافراد في مجتمعنا، انما يجب علينا جميعاً ان نفضح التواطؤ بين المثقف والسلطة، المثقف الذي لاذ بالصمت، احياناً، والتبرير احيان اخرى لممارسات السلطة التي ادت الى خلق هذا الواقع، وبالتالي شكل وطبيعة هذا الوعي الذي نتقده، نعم انا اتطلع الى ممارسة النقد، ولكن نقد شكل هذه العلاقة اولاً، بين المثقف والسلطة، علاقة التواطؤ، ونقد ممارسة السلطة التي خلقت هذا الواقع، ونقد خطاب المثقف التخنيثي التبريري لممارسات السلطة واجهزتها القمعية، ان واقعنا الذي نشهده ونراه ونعيه جميعاً، بطرق متفاوتة ومتباينة، واقع تزول عنه ضبابية التفاوت والتباين عندما ننظر اليه من منظور يترفع عن الانتماء للأيديولوجيا، ويعلن بوضوح بالغ انتماءه لصوت العقل والممارسة النقدية الهادفة الى تشخيص مكامن الخطأ، ويعمل على رأب الصدع الذي يستوطن ثقافتنا، ليس هنالك من شك ان ما قاله فوكوفي نهاية كتابه " الكلمات والاشياء " من كون الانسان ليس سوى آثارٌ وخطى على الرمال سرعان ما تزول، ان ما اعلنه فوكو من موت الانسان، هو اعلان مضمر لموت المثقف وتفتته الذي نشهده جميعاً، موت البايولوجيا واللغة والاقتصاد وجزع وعجز مشروع الحداثة عن الوفاء بعهودها ووعودها التي قطعتها، هو موت المثقف الذي يعبر عن فناء الثقافة عندما تنكرت لأهدافها وعجزت عن تجديد شروطها المقترنة بوجود الكائن الحر هدفاً وغاية لها، هدفاً بوصفه ناقداً ومشخصاً لحاضره ومندساً في راهنه وفي الأشياء.