الفلسفة والثقافة

آراء 2020/12/23
...

  علي المرهج
لكل أمة ثقافة، ولكن ليس لكل أمة فلسفة، وأن قيلت هذه الجملة (أن لكل أمة فلسفة) فهي من باب التجوز والإمكان، لا من باب االتسليم بأنها حقيقة، لأن من مقتضيات الإيمان بوجود فكر فلسفي هومقدار ما يحمله هذا الفكر من نزوع شكي ونقدي يهدف للوصول للحقيقة.
لذلك كل فلسفة ثقافة، ولكن ليس كل ثقافة فلسفة، لأن الثقافة مصطلح مفتوح الدلالة يمكن أن يُطلق حتى على الشعوب البدائية بأن لديها ثقافة، وهنا يأتي معنى الثقافة ليُشابه مفهوم الأنثربولوجيا.
المعروف أن الفلسفة ترتبط بالوعي، وقد يكون هذا الوعي (إدراكا عقليا) أو(إدراكا حسيا)، وفي نهاية المطاف في الفلسفة نزوع للتجريد والمعرفة النظرية حتى وإن إنطلقنا من الواقع والوجود لفهمه، أي الانتقال من الواقع إلى النظرية.
إن مهمة الفلسفة صناعة المفاهيم لأجل فهم ديناميكية العالم والوجود لفهم تحولاته وأصله وعوده، بينما مهمة الثقافة البحث عن الجمال والامتاع والإبهار لا البحث عن الحقيقة، هذه المهمة التي هي أصل نشوء التفكير الفلسفي.
السؤال والأشكلة على الوجود الإنساني ووجود العالم وعلتهما هي شرط من شروط تطور السؤال الفلسفي، ولكن هذا لا يُعد شرطاً من شروط الثقافة بمعناها (التهذيبي) المرتبط بالأخلاق، أو بمعناها الجمالي المرتبط بالفن والإبداع.
ترتبط الثقافة ـ عادة ـ في مجالات إبداعية شتى كالشعر والسرد والفن بكل تمظهراته، وقد تتداخل الفلسفة وتدخل في هذه الأنواع والمظاهر، ولكنها تدخل من باب فحص مفاهيمها وقدرتها على تقديم رؤية تفسيرية لنا لفهم العالم والوجود، لذلك تكون فلسفة الفن ليست هي الفن، مثلما هي فلسفة العلم ليست العلم ذاته، وفلسفة الدين ليست هي الدين ذاته.
تنشط الفلسفة في عوالم الثقافة التي تقترب من متطلبات سؤال الوجود والحياة، فهناك الفلسفة العملية التي منها فلسفة القيم في السياسة والجمال(الفن) والأخلاق، وكلما اقترب المبدع في هذه المجالات من همّ الفيلسوف في الكشف الحقيقة والوصول إليها تجد الفيلسوف يقترب من مباحثه هذه ويدلوبدلوه في هذه المجالات التي يعتقد أنها مكملة عملياً للجواب عن سؤال الوجود النظري.
تدور الثقافة شعراً وسرداً ونثراً في فضاء صناعة الجمال على قاعدة (أجذل الشعر أكذبه) بينما تدور الفلسفة حول الحقيقة على قاعدة (أجمل وأعذب القول أصدقه)، لأن مهمة الفلسفة ليست كما الفن ألا وهي (الامتاع) بقدر ما تكون مهمة الفلسفة نقض كل طرق استخدام اللغة البلاغي للتمويه على الحقيقة، لذلك وجد الكثير من الفلاسفة ضالتهم في المنطق، لأنه ـ بحسب فهمهم القديم له ـ بأنه "الأداة التي تعصم الذهن من الوقوع في الزلل أوالخطأ".
على الرغم من اشتراك الفلسفة مع الثقافة في الركون للذاتية، إلا أن ذاتية الفيلسوف تحكمها رؤيته المستندة الى مبادئ مثل الضرورة والعلَية المرتكنة لمعطيات المنطق، بينما ذاتية المثقف تحكمها نزعاته الوجدانية الجوانية، ولا أعني بهذا غياب التفكير الوعي عند المثقف، ولكن تجليات الروح في النتاج الثقافي الإبداعي تطغي على نزعاته البرهانية، بينما عند الفيلسوف تجد العكس، فهوبقدر ما يُحاول أن يرتكن في تقديم رؤاه على حجج منطقية يقبلها المنطق الشائع في مرحلته الزمنية.