المجامع اللغوية وسؤال اللغة

آراء 2020/12/23
...

  خالد خليل هويدي*
في كل عام يُحتفى باليوم العالمي للغة العربية، بوصفها لغة عالمية؛ وذلك بعد اعتمادها لغة رسمية في الجلسات التي تجريها الأمم المتحدة، وأصبحت واحدة من لغات ست يجري التداول بها في أروقة المؤسسة الدولية.  ولاشك في أن اللغة العربية تستحق مثل هذا التكريم؛ لما تشتمل عليه من تراث علمي رصين، يجعلها في طليعة اللغات الطبيعية العالمية، فضلا عن أن عدد المتحدثين بها يتجاوز الـ274 مليونا.
والسؤال الذي يفرض نفسه هنا، هل نحتاج في يوم اللغة العربية إلى الاحتفاء بها، عبر تمجيد تاريخها وأعلامها، وإلقاء القصائد المعظّمة لها أو أننا بحاجة أكبر إلى مراجعة لطبيعة عمل المؤسسات العلمية القائمة على حفظها، ومن ثم تقويم عملها؟. 
وأعني بالمؤسسات المجامع اللغوية، التي تتولى قضية متابعة واقع اللغة، وبيان التحديات التي تواجهها، ومن ثم تحديد الحلول الواقعية اللازمة لمواجهة تلكم التحديات. 
هل قمنا بمراجعات نقدية لطبيعة عمل تلك المؤسسات، وبيان أثرها ودورها في تعزيز التداول اللغوي بين الناس؟. 
لا شك في أن هذه الأسئلة تكتسب مشروعيتها إذا ما علمنا بأنه قد مرّ أكثر من نصف قرن على إنشاء مجامع اللغة العربية، وهذه مدّة كفيلة بأن نسائل القائمين عليها. 
أستطيع أن أقول إن هذه الأسئلة تبدو غائبة عن مجمل تلكم الاحتفاءات، فلا تشتمل تلك الاحتفالات على حديث عن التحديات التي تواجه راهن اللغة العربية، ولا تسعى أصلا إلى مراجعة طبيعة عمل المجامع اللغوية، وبيان مدى إفادتها من تكنولوجيا المعلومات التي وفرتها الثورة التكنولوجية، التي تغزو العالم، ومحاولة تحديث نفسها بتقنيات تؤمّن لها الإجابة أو حتى تشخيص الإشكالات التي تعيشها اللغة العربية. 
للإجابة عن هذا الإشكال، الذي يمثل تحديًا كبيرًا إزاء وجود تلك المؤسسات يجدر بنا الوقوف أولا على السياق التاريخي الذي ظهرت فيه المجامع اللغوية، وهو سياق تسلّطت فيه النزعة القومية، في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، وهي نزعة ذات بعد إيديولوجي سيطرت على مجمل البلاد العربية، ولو نظرنا إلى أولى المجامع اللغوية، التي أنشئت في البلاد العربية لوجدنا أنها نشأت في بلاد سيطرت عليها النزعة القومية، وأعني بها مصر والعراق وسوريا، وأعتقد أن الايديولوجيا تفقد الممارسات والمؤسسات قيمتها العلمية؛ لأنها ستكون مصدا يعوق عملية النقد أو مراجعة 
الذات. 
يقتصر دور المجامع اللغوية في الحفاظ على اللغة العربية، ومحاولة نشر التداول بها، وتعريب المصطلحات الأجنبية الوافدة في البيئة اللغوية العربية؛ عبر إيجاد مقابلات عربية لها، ومن ثمّ تبنيها ونشرها عبر وسائل الإعلام لكي يتبناها المتحدثون باللغة العربية، ولا شك في أن هذه الأهداف سامية ومهمة وتسهم في تكوين شخصية عربية مستقلة، من طريق تكوين شخصية لغوية لها سماتها المميزة لها. 
لكن لو نظرنا إلى المسألة من زاوية لغوية أخرى لوجدنا أن السلطة العليا للتداول اللغوي، هي بيد المجتمع وليست بيد السلطات الرسمية، فلا يمكن اعتماد مصطلح عربي للتعبير عن منجز غربي، من خلال قرار يتخذه المجمع، ويضمّن ضمن محاضر اجتماعاته، ويركن على الرفوف، من دون أن يرافق ذلك نشره في وسائل الإعلام وتبنيه، عبر سياسة لغوية محددة تعتمدها الدولة، زِد على ذلك أن الأمة التي لا تنتج لا يمكن للغتها أن تنتشر قياسًا بلغات الأمم المنتجة، فالذي ينتج ويصنع هو الذي يضمن للغته الانتشار، ومن يعتمد على منتجات الآخرين لا يمكن أن نتوقع للغته الانتشار، فالتحدي الذي تواجهه المجامع اللغوية هو تحدٍ حضاري بامتياز. 
ربما أكون قاسيًا عندما أقول إن المجمعيين يعيشون في لحظة تختلف عن اللحظة التي يعيشها راهن العربية، ويكاد يكون دورهم خجولا ازاء ما تعانيه اللغة العربية في أوساط الشباب، وسيطرة الوافد الأجنبي عليهم، في سياق صعود ثقافة الإنترنت، إنه تحدٍ خطير وسؤال مهم يواجههم، ينبغي للمجامع الوقوف عنده، ومحاولة معالجته؛ لأنه سيتحول إلى أزمة حقيقية، وهي أزمة استشعرتها اليونسكو، في بيانها الأخير؛ إذ أكدت أن استخدام اللغة العربية الفصحى يتناقص بوضوح كبير، لصالح تزايد استخدام اللهجات العربية المحلية، ومعالجة هذا الأمر  يقع في صلب عمل المجامع اللغوية، ويفرض عليها ضرورة اتخاذ اجراءات عملية تحفظ سلامة الفصحى، من خلال جعلها متوافقة مع متطلبات المشهد اللغوي المتغير اليوم، وكذا أشار البيان إلى خطورة التكنولوجيا والاستعمال المكثف للغات العالمية مثل الإنجليزية والفرنسية، على العربية. فاللغات الأجنبية تكاد تحل، وعلى نحو متزايد، محل اللغة العربية في التواصل اليومي والمجال الأكاديمي.
أعتقد أن قضية المجامع اللغوية بها حاجة فعلا إلى مراجعات نقدية، تعيد النظر في واقعها، والأدوار التي تؤديها، وأعتقد أيضًا أنها تحتاج إلى حركة تحديث وتطوير، وانفتاح على الحداثة والعصر، وتفتح أبوابها أمام اللغويين الجدد الذين تشبعوا بمبادئ اللغويات الحديثة التي شهدها العالم، فثمة اختصاصات يجب أن تؤكد حضورها في المجامع اللغوية من قبيل اللغويات الحاسوبية، واتجاهات السياسة والتخطيط اللغويين، فضلا عن ضرورة الحضور الإعلامي في المؤتمرات والندوات ومعارض الكتاب، فهل من المعقول إن حدثا ثقافيًا مهمًا، مثل معرض الكتاب في بغداد يغيب عنه المجمع العلمي العراقي؟. 
إن هذا الغياب يعكس وضعًا صعبًا يعيشه المجمع، في هذه اللحظة التاريخية، يجب الوقوف عندها ومحاولة بيانها، فهو مؤشر على تضاؤل حضوره، ومن ثم غياب دوره، ويبدو أن هذه النهاية تختزل غايته، التي ربما كانت مقصورة على الحفاظ على القومية العربية، وليس على اللغة العربية، وعندما تلاشت فكرة القومية تلاشى دوره. 
 
 *جامعة بغداد/ كلية التربية ابن رشد