إيران ومعركة الانتخابات الرئاسيَّة المبكرة

آراء 2020/12/26
...

  جواد علي كسار

 
 
استقطبت انتخابات الرئاسة الإيرانية المرتقبة أكثر من ظاهرة، من بينها كثافة المرشحين، إذ برزت حتى الآن أسماء في المشهد السياسي، من بينها إبراهيم رئيسي الرئيس الحالي للقوّة القضائية، وأقوى منافس للرئيس حسن روحاني في الانتخابات السابقة، والسكرتير السابق للمجلس الأعلى للأمن الوطني سعيد جليلي، والرئيس الأسبق للأذاعة والتلفزيون عزت الله ضرغامي، وپرويز فتاح، ومهرداد بذر باش، وعباس آخوندي، ونائب الرئيس الحالي إسحاق جهانگيري، ومحسن هاشمي نجل الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني، والإصلاحي المعتدل محمد رضا عارف، ووزير الخارجية الحالي محمد جواد ظريف، هكذا إلى أكثر من ثلاثين مرشحاً بارزاً.
 
من مفارقات هذه الدورة، أن مقدّماتها التنافسية بل الصراعية، بدأت باكراً إذا ما قورنت بالدورات السابقة. فقد مرّت الرئاسيات الإيرانية باثنتي عشرة دورة، بدءاً بالرئيس الأوّل أبي الحسن بني صدر، وانتهاءً بالرئيس الحالي حسن روحاني. 
وما كان يحصل في الرئاسيات السابقة، أن المعركة تحتدم قبل أشهر قليلة من موعد إجراء الانتخابات، وأحياناً لا تزيد المدّة عن شهر واحد أو شهرين، بخاصة إذا كانت نتائجها محسومة سلفاً، كما حصل ذلك في الرئاسة الثانية لخامنئي ورفسنجاني وخاتمي، بيد أن ما حصل في الانتخابات الحالية المقرّرة في حزيران المقبل، هو شيء استثنائي بالمقاييس كلها. 
فقد بدأت المعركة وحمي وطيس المشهد السياسي من حولها، منذ أكثر من سنة، تشهد على ذلك ليست كثافة المرشحين وحدها، بل كثرتهم وتنوّعهم بين مختلف مكوّنات الطيف السياسي الإيراني، والحديث اليومي الذي لا ينتهي عن هذه الانتخابات، بين القوى السياسية الإيرانية، من إصلاحية وأصولية وما بينهما، على النحو الذي لم نشهد له مثيلاً في الانتخابات السابقة.
 
جبهة الأصوليين
بتعبير أحد كبار اليمين السياسي في إيران محمد رضا باهنر رئيس اتحاد المهندسين، أن إيران تدفع مع كلّ انتخابات، ثمن عدم وجود أحزاب منظمة وقوية، كما هو الحال في الديمُقراطيات الغربية. ولذلك يصعب برأيه التنبؤ بخيارات المستقبل.
بغياب الحياة الحزبية التي تجسّر العلاقة بين السلطة والشعب، بحسب واحد من البارزين في الفقه السياسي الإيراني، الراحل داود فيرحي، في كتابه: «الفقه والحاكمية الحزبية» لجأت الساحة الإيرانية إلى بناء التكتلات الجبهوية، وهي عادة ما تكون جبهات موسمية، تظهر إبّان الانتخابات ثمّ تختفي. ففي حركة مشابهة لما حصل في الانتخابات البرلمانية الأخيرة، التي جرت في شباط من السنة الحالية، يتجّه اليمين الأصولي إلى تأسيس جبهة موحّدة، على غرار جبهته السابقة، الموسومة: «القوى المناصرة للثورة» لكي يترشّح من مصفاتها، الرئيس الذي تلتفّ من حوله القاعدة الشعبية 
لليمين. 
وبهذا الشأن تفيد آخر المعلومات التي سربتها مصادر الإصلاحيين، أن اليمين استقرّ على ثمانية مرشحين، هم على التوالي من حيث الأهمية والأولوية: إبراهيم رئيسي، محمد باقر قاليباف، سعيد جليلي، پرويز فتاح، علي رضا زاگاني، مهرداد بزرباش، علي نيكزاد، وأخيراً محمد قمي.
الملاحظ أن هذه القائمة، قد أسقطت أسماء مهمّة لها طموحاتها المندفعة، صوب قصر باستور مقرّ الرئاسة الإيرانية، مثل عزت الله ضرغامي الرئيس الأسبق للأذاعة والتلفزيون، ورموز الخطّ التصالحي المعتدل بين الأصوليين والإصلاحيين، وأشهرهم علي لاريجاني الرئيس السابق للبرلمان الإيراني، وعلي مطهري نائب رئيس البرلمان السابق، ونجل المفكر الإيراني مرتضى مطهري. والأهمّ من هؤلاء جميعاً؛ أن هذه القائمة أهملت عمداً، مجموعات الجنرالات التي تشرئبُّ أعناقهم شوقاً، إلى كرسيّ الرئاسة في باستور.
 
جبهة الإصلاحيين
أُصيب الإصلاحيون بحالة من اليأس شبه المستديم، بعد صدمة شباط الماضي وخسارتهم الكبيرة والمتوقّعة في الانتخابات البرلمانية، بيدّ أن شيئاً من العافية سرى في كيانهم، بعد صعود بايدن في أميركا، وانتعاش الإصلاحية في إيران.
ثمّ عنصر آخر يثبّط همّة الإصلاحيين ينبغي أن لا نهمله، يتمثّل بغياب العنصر الفاعل أو العقل المحرّك لقيادتهم المعنوية والتنظيمية، فقد كان من وراء هندسة فوز روحاني بالرئاسة، والإطاحة باليمين من الجولة الأولى، القيادة الروحية التي تمثّلت بتلاقي إرادات؛ هاشمي رفسنجاني، ومحمد خاتمي، وحسن الخميني وحسن 
روحاني. 
وبوفاة هاشمي رفسنجاني خسر الإصلاحيون والمعتدلون، العقل الأكفأ في إدارة المشهد السياسي الإيراني، بخاصة بعد حالة الإحباط من إداء روحاني ومواقفه، ودعوة البعض، لتخطي الزعيم الروحي الأقوى للإصلاحية الإيرانية محمد 
خاتمي.
أقوى خيار عند الإصلاحيين حتى اللحظة، هو جبهة الائتلاف الرباعي، التي تدور حول حسن الخميني حفيد مؤسّس الجمهورية الإسلامية، وعلي مطهري نجل الشيخ مطهري، وعلي لاريجاني الرئيس السابق للمجلس النيابي، ومحسن هاشمي رفسنجاني رئيس مجلس العاصمة ونجل رفسنجاني. 
أعتقد شخصياً، أن إرادة هؤلاء إذا اجتمعت حول مرشّح محدّد، ورموا بثقلهم التنظيمي والمالي والإعلامي من ورائه، فيمكن لهم أن يحقّقوا حضوراً مهمّاً في انتخابات 
الرئاسة.
 
جبهة الجنرالات
لقد دفعت أجهزة القوّة العسكرية في إيران، وبخاصة الحرس الثوري؛ دفعت مجموعة من الأسماء البارزة للفوز بكرسي 
الرئاسة.
الأهمّ من ذلك، أنهم مهّدوا للأمر بأطروحة عملوا لها سنوات مديدة، وازداد الحماس لها في السنتين الأخيرتين، ولاسيّما بعد انسحاب ترامب من النووي، وتفاقم الأزمة الاقتصادية الداخلية، والانهيارات الأمنية المتمثلة بمقتل سليماني وفخري زادة وغيرهما، وتخريب عدد لا يُستهان به من المنشآت الإيرانية، العسكرية منها وغير العسكرية.
خلاصة رؤية هؤلاء ومن يحتشد من ورائهم، من قوى دينية وسياسية وشعبية، ومؤسّسات اقتصادية وأجهزة بيروقراطية، أن الجناحين الرئيسيين في إيران، قد فشلا كلاهما في تجاوز إيران لأزماتها، أو على الأقلّ أخذا فرصتهما الكافية في السلطة، وقد آن الأوان للخطّ الثالث.
مصطلح الخطّ الثالث في إيران ليس من نعت العسكريين، لكنهم وظّفوه في حماستهم بل اندفاعتهم الحاضرة للرئاسة. وفي طليعة هؤلاء الجنرالات اليوم، تبرز أسماء حسين دهقان الذي أعلن ترشيحه للرئاسة، ومحسن رضائي القائد الأسبق للحرس الثوري، وعلي شمخاني السكرتير الحالي لمجلس الأمن الوطني، ومحمد باقر قاليباف الذي تدفعه طموحات الجلوس على كرسي باستور، لمغادرة رئاسة البرلمان، وسعيد محمد وربما أيضاً الجنرال محسن رفيق دوست أول وزير للحرس الثوري، في حكومة هاشمي رفسنجاني.
منطق هؤلاء باختصار إن إيران القوية لا تُبنى إلا من خلال العسكر، ومن ثمّ فإن وصول العسكر إلى قمة السلطة، كفيل بسدّ جميع الثغرات في الجدارين الأمني في الداخل، والدفاعي في الخارج. 
من الطموحات التي لم يخفها هؤلاء التركيز على الصناعة النووية، حتى أن محسن رضائي لامَ سياسيّ بلده، بأنهم لو أخذوا بطريق كوريا الشمالية في النووي، لأحرزوا اليوم تقدّماً في المجال الذري، يفوق ما لديهم على مستوى الصناعات الصاروخية.
 
محسن رضائي
عادة ما يوصف هؤلاء الجنرالات الطامحون للرئاسة، بأنهم قدرات إدارية متميّزة، فضلا عن صفة الحزم والطاعة والانسجام مع المرشد. لكن يبقى من بين هؤلاء محسن رضائي كظاهرة فريدة، في القدرة على التحليل والتنظير والاستناد إلى الإطار النظري، حتى بالنسبة لمن يختلف معه في الموقف الفكري. 
أكاديمياً بدأ محسن رضائي تعليمه في الهندسة، ثمّ استكمل تعليمه العالي فحظي بدرجة الدكتوراه بالاقتصاد. من مؤلفاته التي تعكس رؤاه لمستقبل إيران وخياراتها، كتابه: «مشروع رؤية للنهضة الثقافية والجهاد العلمي في إيران»، وكذلك: «مرتكزات الأنموذج الجامع للتنمية الاقتصادية» و «الأيادي الخفية» 
وغيرها.
ملخص رؤيته، أن إيران نجحت على المستوى الأمني والدفاعي في العقد الأول ما بعد الانتصار، لكن خطاها تعثّرت في مجالي الاقتصاد، والقيم والثقافة.
لذلك، تبقى إيران بحاجة حسب رضائي إلى ثورة في المجال التربوي والثقافي، وهذه مهمّة عجز عن النهوض بها الأصوليون والإصلاحيون معاً، ما يجعل الطريق مفتوحاً أمام الخيار الثالث، الذي يمثله رضائي وأنصاره.
لكن المشكلة العملية التي تواجه جبهة الجنرالات، ليست مشكلة نظرية أو ثقافية، بل مشكلة اجتماعية، تتمثل بضعف القاعدة الشعبية لهؤلاء. على سبيل المثال لو أخذنا رضائي مثالاً فسيتضح لنا حجم هذه المفارقة، فقد رشّح محسن رضائي في انتخابات الدورة السادسة لمجلس الشورى، على قائمة جماعة العلماء المجاهدين، وفشل في الفوز. وفي انتخابات الدورة الرئاسية الثامنة التي فاز بها خاتمي، اصطفّ إلى جوار الجنرال علي شمخاني وفشل. 
أخيراً وفي الدورة التاسعة للرئاسة رشّح، ثمّ ما لبث أن سحب ترشيحه قبيل ساعات من إجراء الانتخابات!
والسؤال الأخير؛ هل يشهد المزاج العام للقاعدة العريضة من الرأي العام الإيراني، انقلاباً لصالح العسكرة، بعد نكبات السياسيين في الاقتصاد والأمن؟.