د. محمد حسين الرفاعي
[I]
لا يقوم الفعل السياسي، كأي فعل مجتمعي آخر، إلاَّ على مصادر شرعية مجتمعيَّة، يستمد منها وجوده، واِستمراره في الوجود، من جهة، كما هو يُحدِّدُ ذاته بواسطةِ أنَّهُ يتضمَّنُ معنىً، وهدفاً، ودلالة ذاتية، في أوَّل بدئه، من جهةٍ أخرى. كما أنَّه لا يأتي إلى مستوى الواقع المجتمعيّ إلاَّ بواسطة شرط الإمكان الذي تحدده المشروعيَّة القانونية له.
[II]
ينظم الفعل ذاته، ويحددها، ويرسم لها حدود الممارسة بواسطة تساؤل الكيف؛ أي: كيف يأتي إلى مستوى الواقع المجتمعيّ سياسيَّاً؟ ومن أجل وعي ذلك، يُقدِّمُ الواقع المجتمعيّ، في كلِّ مرة، نفسه بوصفه يتوفَّرُ على إمكان تضمُّن الفعل. إذن في العلاقة بين الفعل السياسي، والواقع المجتمعيّ، تبرز ضرورة تحديد ماهيَّة الواقع المجتمعيّ اِنطلاقاً من البِنى المجتمعيَّة الأساسيَّة فيه، من جهة، والإمكانات التي يوفِّرها الواقع للفعل، من جهةٍ أخرى.
[III]
لقد حُدِّد الواقع المجتمعيّ بعامَّةٍ، منذ التغيُّر الذي حدث في عامّ 2003 إلى الآن بواسطة سياسات مجتمعيَّة جديدة كُلِّيَّاً يمكن فهمها بالتوقف عند المحطات الآتية:
I- حلَّ مبدأ تقاسم العنف محلَّ مبدأ تقاسم السلطة؛ وبذلك، بدلاً من اِحتكار العنف بيدِ الدولة، صار العنف، بوصفه الوسيلة الأكثر اِستخداماً في تحديد الفعل السياسي، والفعل المواجه له، بيدِ جماعات سياسية مختلفة توظِّفه في كل مرَّةٍ تتعرض مصالحها السياسية إلى تهديد، المحدِّدَ الأكثر فاعلية على صعيد بِنيَة السياسة.
II- حلَّ مبدأ الطائفة كقيمة عُليا محلَّ مبدأ الوطن كقيمة عليا؛ وبذلك أصبحت مصالح الطائفة، ومصادر اِستمرارها، والحفاظ عليها السابقَ على الفعل السياسي، الذي من دونه لا يمكن أن يبدأ ولا يمكن أن يفعل شيئاً.
III- حلَّ مبدأ التفكيك، والتجزئة، محلَّ مبدأ الوحدة والتوحيد بين المكوِّنات المجتمعيَّة المختلفة؛ لأنَّه قد أُخِذَت الديموقراطية من نتائجها ولم تُؤخَذُ من أسسها المجتمعيَّة. أُخذت بوصفها ممارسة، بدلاً من أخذها كمؤسسة مجتمعيَّة، قَبلَ أن تكون سياسية.
IV- أصبح مبدأ الولاء لزعيم الحزب، والحركة المجتمعيَّة- السياسية على رأس هرم الاِنتماء إلى حركة، أو حزب، أو تنظيم سياسي؛ وهكذا أصبحت الأفعال التي تتنكر برداء الولاء، وتحجب الفعل ذاته، على الدرجة الأعلى من سلم الفعل السياسي.
V- تم تحريف الشرعية المجتمعيَّة للسلطة، والمشروعية القانونية لها، بواسطة الرداء الديموقراطي الذي يحجب أصل الديموقراطية، وماهيتها الأصليَّة. وهكذا، أصبحت المصادر المجتمعيَّة لشرعنة السلطة على درجة أعلى من الذَّوات الفاعلة مجتمعيَّاً، بعامَّةٍ، وسياسيَّاً، بخاصَّةٍ.
[IV]
إنَّ التحريف الذي جرى على الفعل السياسي، في السنوات الماضية، منذ نشأة الديموقراطية على الدبابة، من ممارسة الديموقراطية بواسطة اِختزالها في صناديق الاِقتراع، كوسيلة في السَّبيل إلى السلطة، من جهة، واِستخدام المصادر المجتمعيَّة للسلطة في السَّبيل إلى حجب الديموقراطية بالتنكر بردائها، من جهةٍ أخرى، قد اِنسحب إلى مستوى تحديد حقل العلاقات داخل السلطة وفقاً لما تقوله وحدة الرأي، والتعبير، والتحديد. وبذلك، قد تم القفز على التعدُّد، والاِختلاف، والتنوع، بجرة قلم، أي بتدخل السلاح، والمال، والفساد، والإفساد. ولكن، في أيَّة معانٍ علينا أن نظفر بفهم ذلك؟
[V]
لقد تغيرت نماذج التحديد Paradigms بعد الصحوة الإسلامية عامّ 1979 بواسطة مصادر الفعل، والتحديد التي من شأن الفعل السياسي، بواسطة المحطات السياسية- التاريخيَّة الآتية:
I- أخذت الثورة الإسلامية، في المعنى الحديث لها، تشتمل على معنى الديموقراطية على هذا النحو أو ذاك، من أجل بناء علاقة مع العالَميَّة، كذلك على هذا النحو أو ذاك، تتمثَّل في جذرها العميق في البحث داخل الدِّين عن مصادر الديموقراطية. يمكن التوقف عند مفهوم الديموقراطية الدينية، في سبيل ملاحظة ذلك، على سبيل المثال، لا الشمول.
II- بلغت الأفعال السياسية مستوى البحث عن مصادر عالَميَّة، بدلاً من البحث عن مصادر تحديد داخلية؛ وفي عبارة أخرى، اِنفتح الفعل السياسي على السوق العالَميَّة، ومعادلات العرض والطلب فيه، والسماح بذلك، من جهة، والتبادل التجاري على الصعيد العالمي، من جهةٍ أخرى. وهكذا، اِنتقل الاِقتصاد العالمي إلى مستوى مصدرِ تحديدِ ماهيَّة الفعل السياسي.
III- اِنتقلت الشمولية من معنى الولوج إلى، والهيمنة على داخل الذَّوات الفاعلة، إلى معنى النقد والنقد المضاد المُمارَس عليها؛ وهكذا هي تجد ذاتها في مواجهة التعدُّد الفكري، والاِختلاف الآيديولوجي، والتنوع المجتمعيّ، في كلِّ مرة تسعى فيها إلى الوحدة فرضاً، والتوحيد إرغاماً.
IV- لم تعد ممارسات مقاومة المعادلات السياسة العالَميَّة تختصر على، وتُختزل في العسكر، بل اِنسحبت إلى مستوى الفعل الذي يقوم على الاِقتصاد السياسي، والممارسة السياسية التي تقوم على العالَميَّة في معنى بناء علاقة معها، تنافراً أو تجاذباً أو تبايناً أو توافقاً، على هذا النحو أو ذاك، ضمن بِنيَة الثقافة، والاِقتصاد، والسياسة، المجتمعيَّة بعامَّةٍ.