رصانة الضبط المجتمعي

آراء 2020/12/29
...

  حسن عودة الماجدي
لايمكن الحديث عن الواقع الاجتماعي العراقي وتمظهراته، من دون الاشارة الى ما كتب عالم الاجتماع الدكتور علي الوردي، مستشهداً بافتراضاته، التي شخص من خلالها بوضوح تام دراسة المكونات العراقية المتعايشة معا على أرض الرافدين، بكل اتجاهاتها وتوجّهاتها الدينية والقومية والمذهبية وكذلك الجغرافية، ريفاً زراعيّاً وآخر رعوياً وبداوة أزلية، وبين الذي كما ينبغي عليها بوجود القاسم المشترك وهو الوطن الذي هو مجمع للموزائيك العراقي، إذ كان هو القوة الفاعلة في الاستخدام السياسي في ظروف معيّنة ومحددة للغاية وليس الافتراض، 
بأن يكون عبارة عن جسد تدور فيه خلايا الصراعات القبلية المارقة على القانون والشريعة، ممّا يجعل من هذا الوسط المتعايش خليطاً غير متجانس، فالمشكلةِ في هذا الصدد أنّ تحليل قيم البداوةِ لاتزال صاحبة الذّراع الأطول في العرف والسنينةِ القبليةِ، وكي لايفوت القارئ الكريم، أودُّ أن أُعرِّف السّنينة العشائرية، بأنّها مجموعة من الأحكام والبنود التي تواضع عليها مجموعة رؤساء العشائر أو مجموعة رؤساء الأفخاذ لعشيرة واحدة لغرض السيطرة على شؤون العشيرة داخلياً وخارجياً، بما يوفّر الحماية والأمن لأفرادها، ولكن هذه الأحكام والبنود غالباً ما تكون منافية للأحكام الشّرعية، لأنّها مشرّعةٌ وموضوعة من قبل أُناس بعيدين عن الشّريعة المقدّسة، فضلاً عن أنّ شيخ العشيرة، قد اكتسب من تعريف السّنينة الاغترار بنفسهِ، ولم يسمع بأذنهِ من الآخرين غير كلمة (المحفوظ ) أو ( شيخ المشايخ )، منطلقا من استحكام عقدة ( الأنا ) الّتي أسّرت وشلّت قدرات عمل التّصافح المتكافئ بين أبناء العمومة والجيران، فوقع في خطيئة الظّلم باعتماد السّلوك المتعالي المتخلّف والممارسات المُتغطرسة، المؤسف في هذا أن العقد المستحكمة في النّفس العشائرية جعلت من فجوة التّباين بشكل واضح تجاه الحد الشّرعي ومحدّداته في القرآن المجيد والسّنة الشّريفة، وكأنّ ماجاؤوا بهِ هو المنزّل، لذلك نشبت جرّاء ذلك حروب مدمّرة بين العشائر في الوطن الواحد، ممّا انسحبت بالتّالي الى ثارات امتدت لعشرات السّنين بين الأجداد والأولاد والأحفاد.
 لكن في هذا المقام لا بدّ لنا من إنصاف الممارسات في عشائرنا الكريمة، في ظل الحيف المخيف العراقي وتداعياتهِ المريبةِ، بعد التّغيير الذي حصل عام 2003 والذي استبشر العراقيون به خيراً، لكن المؤسف لم يكن كذلك، بل صدأت المعادن وباتت خلطاتها غير المتجانسة تطغى على السلوك القيمي الديني والانساني، نتيجة للتزاحم الهجين للقوى المتصارعة على سدة الحكم، ولكن مع هذا الهوس صاحب النظرة القاصرة والزائلة بفعل الحداثة العارمة، هناك عوامل من الثوابت الرصينة التي تكبح جماح المتهورين، ومن أين كانوا، هذه تؤمن بأن الترابط السياسي العام هو الجدوى الكفيلةِ لمستقبل العراق ما دام الدين والدولة متعانقين كنظامين الاول بثوابتهِ الشرعية والثاني بتشريعاته القانونية.
 اذاً لا نخشى على الضبط الاجتماعي بوجود الرّصانة الشّرعيةِ والمسحة الوضعية، وفي العودة لتوصيف الوردي بصدد العلاقات العراقية الداخلية والخارجية في السّفر الطويل، يقول إن العراق اعتمد شروطا متخلفة جداً في فترات أنظمة الحكم المتعاقبةِ، اذ لم تبن فيها المؤسّسات السّياسية المتكافئة في بودقة العراق الوطنية ولا في المحيط الدولي، هذه الاسباب وما سواها إعادة عقارب الساعة إلى الوراء، أي أن الانظمة الحاكمة تدفع بعرف العشيرة إلى الأمام بالتّوازي مع قضائها المُترهل، الذي بلغت قوانينهُ حسب احصائية غير رسمية أكثر من (27) الف قانون ما زال بعضها ساري المفعول، وهذا العدد المخيف يعد ثقلاً يعيق عمليات التنمية البشرية والنهوض بواقع العصر ومرحلة التطور المتسارع، مع ان هذا لايعني التشكيك أو التطاول على منظومة العراق القضائية الخالدة، كون العراق أحد البلدان التي تمتلك أرثاً قانونياً يمتد عبر عقود من الزمن، حيث نشأت فيه معالم الدولة قبل غيره وتقدم على محيطهِ الإقليمي في هذا المجال، فقد ورث القوانين منذ العهد العثماني وما تلاه من الانتداب البريطاني، لكن الذي حال دون ما كان عوامل الزمن وما صاحب ذلك من المتغيرات السياسية، التي رافقت المسيرة التاريخية بعد الحرب العالميةِ الأولى وتعاقب أنظمة حكم لها فلسفاتها في التشريع والتي تبدو في ظاهرها ناصح وفي باطنها فادح، حيث تشرّع وفقاً لما تمليه مصالح الذّوات والسّائرين في ركابهم، ولهذا يتوجّب على الذّوات الجدد دراسة السّفر التاريخي للعراق ومن عمقه السّوقي وحتّى اللحظةِ بموضوعية وتروي ونكرانًا للذّات ونعني بهذا تغليب المصلحة العامة على الخاصّة، فضلاً عن مقصلةِ القوانين الباليةِ والّتي أصبحت عديمةِ الجّدوى، وهذا الأمر الأخير ليس بالمستحيل، عندما أقدمت دولة إيران الجّارة بالغاء القوانين البهلوية البائدةِ وجاءت بما يواكب العصر، فضلاً عن الإعتماد الشرعي على الأرضية القرآنية والسّنة الشّريفة بدلاً من عرف العشيرة وشيخ المشايخ، لذلك أصبحت تلك الدّولة في مصاف الدول العالمية
 الكبرى. 
الجدير بالذّكر وحتّى لا نبخس بالمطلق دور العشيرة، خصوصاً في الوقت الرّاهن من حسم للنّزاعات العشائرية الّتي غاب عنها القانون حتّى اللّحظة، إذ إنّها تقوم بالحسم الفوري في ساحتها والملزم لكل الأطراف المتخاصمة وفي جميع المعضلات الصّغيرة والكبيرة وأن قراراتها قطعية في ما يتعلق بدفع الدّيون والتّعويض المادي وأضرار الحوادث بينما في القضايا المعروضة أمام المحاكم، تحتاج أغلبها إلى أكثر من سنة حتى تنجز مروراً بالاستئناف والتمييز وعقبات التّنفيذ، في ما يتعلّق بالأموال وهذا ما يخلق شعوراً بين النّاس بأنّ العشيرة أكثر نجاحاً من رتابة القضاء المُمِل .