هل تخبو شعلة الفلسفة؟

آراء 2020/12/30
...

  عطية مسوح
 
 
 يرى الكثيرون أنّ صوت الفلسفة خفت في نصف القرن الأخير. وهم يستندون في ذلك إلى شيئين، الأوّل هو عدم بروز تيّارات فلسفيّة جديدة، والثاني مقارنة حال الفلسفة اليوم بحالها في قرون ازدهارها الأوروبيّ، أي في القرون السابع عشر والثامن عشر والتاسع عشر، أي في مرحلة ترسّخ المركزيّة الأوروبيّة ونهوض الرأسماليّة وسعيها إلى
 الهيمنة . 
السؤال المفتاحيّ هنا هو: لماذا تدفّقت الفلسفات في تلك المرحلة وتشكّلت منها تيّارات ومذاهب؟ ولماذا ألهمت المثقفين والسياسيّين في إبداعهم ومواقفهم أكثر ممّا يبدو اليوم؟ السبب هو أنّ أوروبّا كانت تعيش مرحلة تحوّل جذريّ شامل، من علاقات الإقطاع المتحالف مع المؤسّسة الكنسيّة، إلى علاقات جديدة نشأت ونهضت ولا بدّ لها من فلسفات وثقافات ترتكز عليها، وتُسهم في تقويض سلطة معوّقيها. لذلك كان من الطبيعيّ أن تظهر فلسفات العقل، التي تُنزل الفلسفة من بروجها السماويّة إلى الأرض، وتنقل مركز اهتمامها من (الماورائيّات) إلى
 الواقع .
 كان للفلسفة إسهام كبير في إنجازات الرأسماليّة، أمّا فلسفة ماركس والفلسفات الاشتراكيّة الأخرى فقد واكبت الرأسماليّة ولكن من موقف نقيض لها، يدرك دورها التاريخيّ ولكنّه ينظر إلى ما بعده، منطلقاً من فهم الطبيعة الاستغلاليّة للرأسماليّة التي تقيّد حرّيّة الإنسان بقيود الاغتراب . عصر هيمنة الرأسماليّة ما يزال مستمرّأً، والتحوّلات الكبيرة التي جرت في الثلث الأخير من القرن العشرين، أي ما عُرف بالعولمة، هي تطوّر في النظام الرأسماليّ ذاته، لذلك فإنّ النشاط الفلسفيّ لم يؤدّ إلى ولادة فلسفات جديدة، بل جاء بنظريّات تعبّر عن مصالح الرأسماليّة في مرحلة العولمة. ولأنّ العولمة هي مرحلة من مراحل النظام الاقتصاديّ والاجتماعيّ الرأسماليّ، فإنّ الأفكار الفلسفيّة والنظريّات التي تظهر في زمننا هي امتداد للفلسفات السابقة ومحاولة للتكيّف مع طبيعة العولمة ومقتضياتها. لذلك نستطيع القول إنّ الفلسفة واكبت التطوّر الواقعيّ مواكبة مناسبة، فقد ظهرت نظريّتان كبيرتان عولميّتان، تقتربان من الفلسفة وتحملان بعض خصائصها، هما: نهاية التاريخ (فرنسيس فوكوياما) وصِدام الحضارات (صموئيل هنتنغتون) تعبّران عن طموحات القطب العولميّ الأقوي ومسانديه، وكذلك فلسفة البراجماتيّة الجديدة (ريتشارد رورتي). كما أنّ الباحث يجد قرابة ما بين البراغماتيّة الجديدة التي تروج في هذه الأيام والوضعيّة الجديدة التي ازدهرت في العقود الوسيطة من القرن العشرين (راسل – فيتجنشتاين– كارناب،). 
 أمّا في الضفّة الأخرى، ضفّة غير القابلين بالنظام الرأسمالي، فثمّة جهود يبذلها الماركسيّون المجدّدون لجعل الماركسيّة مواكبة للتطوّرات العالميّة، وإعادة الألق إلى منهجها الفلسفيّ، المادّيّ الجدليّ التاريخيّ، وذلك عبرَ إعادة قراءتها في ضوء التطوّرات العالميّة ومعطيات العصر . وفي الأوساط الرأسماليّة الأقلّ جشعاً وتوحّشاً، تتبلور فلسفة الطريق الثالث على أيدي عدد من الفلاسفة أبرزهم (جيدنز–giddens)، وهي تعبّر عن قلق المفكّرين من الأحاديّة التي تكرّسها الرأسماليّة (الاهتمام بالربح فقط)، وإهمالها مصالحَ الفئات الشعبيّة الفقيرة. جاءت فلسفة الطريق الثالث ردّاً على التيار الرأسماليّ الذي ألغى – أو بدأ بإلغاء – الضمانات الاجتماعيّة ودور الدولة الرعائيّ (تيّار التاتشريّة 
والريغانيّة). 
 إنّ عدم ظهور فلسفات أو تيّارات فلسفيّة عظيمة، كما حدث في القرون الذهبيّة للفلسفة، لا يدلّ على أفول زمن الفلسفة كما يرى بعض الباحثين، لا سيّما أنصار الوضعيّة المنطقيّة أو الوضعيّة الجديدة، أو النُسخِ الحديثة من البراغماتيّة الأميركيّة، بل ربّما يؤكّد من جديد أهمّيّة الفلسفة ودورها الكبير في ترسيخ أنظمة اقتصاديّة واجتماعيّة جديدة، إذ لا تظهر قوّيّة باهرة إلاّ في عصور التحوّلات الاجتماعيّة الكبرى فتكون الممهّدَ الفكريّ والمسوّغ العقليّ والمعنويّ لها. ولعلّ الباحث المدقّق يرى وجهاً آخر لقوّة الفلسفة وحضورها الدائم، يتجلّى ذلك في قدرتها على التسلّل إلى الإبداعات الثقافيّة المختلفة (الأدب والسينما والفنّ التشكيليّ)، وقد يتعاظم هذا التسلّل ليكون القاعدة الفكريّة للعمل الفنّيّ أو الأدبيّ، وهذا موجود منذ أن وجدت الفلسفة والفنون. هذا الوجه للقوّة والحضور نما نموّاً كبيراً في أيّامنا، ولعلّ هذا هو دفاع الفلسفة عن ذاتها في وجه محاولات تحجيم دورها . المسيطرون على الاقتصاد العالميّ في مرحلة العولمة لهم مصلحة في تحويل الإنسان المتعلّم إلى منتج بارع يهتم باختصاصه فقط، ويقلقهم الاهتمام بالفلسفة والعلوم الإنسانيّة، ويحاولون صرف الناس عن ذلك، لأنّ الفلسفة تهتمّ بالقيم الإنسانيّة العامّة، وتسعى إلى ترسيخ إيمان الناس بها. 
 وبرغم كون الفلسفة نخبويّة بوصفها إنتاجاً ونشاطاً فكريّين يجنحان إلى التجريد، فإنّ لها حضوراً نسبيّاً في الوجدان الجمعيّ ينمو في مراحل النهوض الاجتماعي وينحسر في مراحل المراوحة أو التراجع، وهو ما نراه في مجتمعاتنا العربيّة في أيّامنا الكالحة هذه . الفلسفة مستمرّة بوصفها تعبيراً عن اهتمام العنصر البشريّ بأمور حياته المادّيّة والروحيّة، وقانونُها هو التراكم، فما من فلسفة تموت، وما من فلسفة مقطوعة الصلة بسابقاتها. أمّا ثالوث الاهتمام الفلسفي (الحقّ والخير والجمال) فهو هاجس الإنسان على امتداد
 الزمن.