محمد الحداد
لا أدري لم كنتُ طوالَ السنوات الأربع المنصرمة مهووساً بفكرةِ أن ترامب سيقتلهُ جنونهُ وطيشهُ عاجلاً أم آجلاً، أعني القتلَ الحقيقي لا المجازي فقط، سواء من الداخلِ الأميركي أو من خارجها البعيد، حيث يتربصُ بهِ أعداءٌ كثر كان يصنعهم باستمرار وظلوا يتزايدون وسطَ صقيع القطيعة والحواجز، التي كانت تكبرُ وتتسعُ يوماً بعد يومٍ مثل كرة ثلج تتدحرجُ وسط الجليد.
ومن طريفِ ما أتذكرهُ حولَ ذلك أنني في يوم التنصيب الرسمي لترامب قلتُ لأحدِ أصحابي: لو نفّذ هذا المجنون نصفَ ما وعدَ بهِ ناخبيه حولَ كوريا الشمالية وايران والمكسيك وكوبا فلن يُكملَ سنوات ولايته الأربع كرئيسٍ لأميركا..وفي أحسنِ الأحوال لن يعيشَ ليهنأ باكمالِ فترةٍ رئاسيةٍ ثانية، ثم أطلقتُ العنانَ لخيالي وزدتهُ من الشعرِ الحزينِ بيتاً بقولي: لن تُفجّرَ طائرتهُ أو سيارتهُ، بل سيغتال بحادثةٍ تشبهُ لقطةً سينمائية مألوفة في فيلم أكشن أميركي على يدِ رجلٍ، سيقولون ببساطةٍ أنهُ شرق أوسطي أو ربما عربي، وستكونُ الحادثة ذريعةً طازجةً لاقناعِ العالم كله بشرعيةِ شنّ هجمة نووية كبرى على أحدِ أعداء أميركا البعيدين، يومها تعجّبَ صاحبي من كلامي وقالَ لي: "جنونكَ هذا أفدحُ وأفصحُ من جنونِ ترامب نفسه" ولستُ ألومهُ أبداً على قوله!
اليوم، لم يبقَ في رأسي من سنواتِ حُكم ترامب المُتخمة بالمتناقضاتِ والغرائبِ إلا سؤالٌ محيّرٌ واحدٌ أخالهُ يدورُ وحدهُ بحثاً عن اجابةٍ وافية وهو: كيفَ تمكنَ هذا العالم المُبتلى بكلِّ ذلكَ الجنون أن يغمضَ عينيهِ بالفعلِ أربعَ سنواتٍ كاملة بانتهاءِ سلطة القرار النووي الأميركي، بيدِ رجلٍ مُهرّجٍ ومجنونٍ وغريبِ الأطوار مثل ترامب وثمة ألفُ رأسٍ نووي ظلَّ طوال ذلك الوقت تحتَ تصرفه؟ بل كيف أمِنَ 330 مليون أميركي حينما أوكلوا مقامراً مثله حقَّ الاحتفاظ بالحقيبةِ الرئاسيةِ الغامضة التي تختزنُ كلَّ خُطط الحربِ النوويةِ السرية؟
فالأمر لم يكن هيّناً أبداً وسط تعرض ترامب المتواصل لضغوطٍ عاصفة سببتْ لهُ صداعاً دائماً ضاعفَ من أخطائهِ، ووسع بالتالي امكانية وقوعهِ في فخاخِ الاحتمالاتِ المرعبة، أقولُ ذلك رغم علمي أن استئثارَ رجلٍ واحد بمصيرِ هذا الكوكب بضغطةِ زرٍ متهورة من حقيبةٍ نوويةٍ محمولة ليس باليُسرِ الذي ربما يتصورهُ كثيرون، لأن الحقيقة تبتعدُ عن ذلك كثيراً، إذ يمكن اختصار فكرة عمل تلك الحقيبة بأنها تمكّن فريقَ العمل الجماعي المكلّف بها وقتَ الأزماتِ الكبرى من التأكدِ من هويةِ الرئيس الحقيقية، وبالتالي اتخاذ الرد العملي المناسب، لكن الأمرَ مع ذلك لم يكن يخلو من مخاطرةٍ كبيرة في ما لو تعرّضَ نظام الحقيبة النووية مثلاً لحالة قرصنة الكترونية أو افتُعِلَ حدث تعرّض أميركا لخطرٍ خارجي أو ربما حصول خطأ تقني كالذي حدث عام 1980، حينما تلقّى بريجنسكي مستشار الأمن القومي للرئيس كارتر اتصالاً من أحد الضباط نقلَ لهُ فيهِ خبر تعرّض أميركا لهجومٍ نووي بعدةِ آلافٍ من الرؤوس النووية أكدتهُ شاشات الإنذار المبكر، لكن قبل أن يتصلَ بريجنسكي بالرئيس عاودَ الضابط الاتصال ببريجنسكي معتذراً عن هذا الخطأ مؤكداً لهُ أن الانذارَ كان كاذباً.
حسناً، تصوروا معي لو أنَّ حدثاً مماثلاً حصلَ أثناء حكم ترامب، فهل لنا أن نتخيلَ ما الذي كان سيحصل؟ ماهو السيناريو المتوقع في ما لو قررَ مجنونان مثل ترامب و"كيم جونغ أون" مثلاً البدء فعلياً بجولةِ تناطحٍ نووي مجنونة تهددُ بنسفِ الكوكب كله جرّاء تعرضهما معاً لمنزلقِ استدراجٍ مُفتعل أو قرصنة حقيقية بالغة الاتقان، لتوقعَ الطرفين في فخٍ الكتروني مُعاد أو ربما محض خطأ تقني كما حصلَ في عهدِ الرئيس كارتر؟ لكننا نحمدُ الله أن العالمَ لم يختبرْ درجة جنون الرجلين حتى الآن.
لكن مهلاً، من قالَ أن الخطرَ الترامبي انتهى إلى الأبد؟ فالرجل لم يعترفْ حتى اليوم بخسارتهِ الانتخابات وأصدرَ أوامرهُ للوكالات الفدرالية بعدم التعاون مع فريق بايدن، وكان قد أعلنَ قبل بدء الانتخابات في سابقةٍ لم تحصلْ من قبل أنهُ لن يقرَّ بهزيمتهِ لو خسرَ السباق الرئاسي، ثمة سيناريوهات كثيرة لا تزالُ قائمة تعكسُ مخاوف أميركية حقيقية من الدخول في دوامةِ أزمةٍ دستورية، إذا أصرَّ ترامب على عرقلة الانتقال السلمي للسلطة واختارَ المضي بذلك الطريق الشائك حتى النهاية، ماذا لو حثَّ أنصارهُ الذين يشكلونَ نصف سكان أميركا على تبني الخيار المسلح بوجهِ مَن لا يزالُ يصفهم بمزوّري وخاطفي الانتخابات؟ ماذا لو افتعلَ قبلَ موعد تسلم بايدن للسلطة حرباً نووية مع كوريا الشمالية أو ايران، محذراً الأميركيين من خطر التعرض لهجوم نووي؟
يكادُ الجميعُ يبصرونَ في الأفقِ القريب شبحَ عاصفة قادمة لا يمكن التنبؤ بتفاصيلها، فهل بوسعِ مُحرّكاتِ الخيال أن تستوعبَ هولَ ما سيحدث مع احتفاظ ترامب حتى الآن بحقيبة الزر النووي؟
أظن أنهُ ما من شيءٍ يمنعُ خيالنا من التحليقِ بالقربِ من تلك السيناريوهات الكارثية المحتملة، التي ربما لم تحدث في التاريخ الأميركي من قبل، لكن الجميعَ سيظل يرجو أن يرضخَ ترامب أخيراً ويسلّمَ السلطة لبايدن ليمرَّ كلُّ شيء بسلام، فهل بوسعنا أن نتفاءلَ بتصوراتنا قليلاً ونتوقعَ أنهُ سيكتبُ لبايدن رسالة تهنئة سيضعها فوق طاولة المكتب البيضاوي قبلَ مغادرتهِ، كما درجت العادة بين الرئيس المغادر والرئيس الجديد، أم أن الجنونَ الترامبي سيكون حاضراً كالعادة؟ لكن إن فعلَ ترامب ذلك حقاً، فماذا تراهُ سيكتبُ حينها لبايدن قبل أن يودّعَ البيت الأبيض كرئيسٍ إلى الأبد؟