نظريّات الـ (ما بعد..)

آراء 2021/01/04
...

   عطية مسوح

 كثر في ثقافتنا العربية، في العقود الثلاثة المنصرمة، استخدامُ المصطلحات التي تبدأ بكلمتي (ما بعد)، سواء في الكتابة أم في المناظرات والحوارات الشفهيّة. وهي مصطلحات تشكل عناوين لنظريات ظهرت في الثقافة الغربية وانتقلت إلى ثقافتنا بالترجمة، أي إنها لم تأت – كما جاءت في مكان ولادتها – مواكبة لتطور موضوعي اقتضى وجودها، أو استجابة لاحتياجات مجتمعية واقعية. أبرز هذه المصطلحات اثنان: ما بعد الحداثة، والمجتمع ما بعد الصناعي، وهما مصطلحان رافقا ظهور العولمة. كما وفَدَت إلينا مصطلحات مشابهة استخدمها العاملون في حقل النقد الأدبي، مثل: ما بعد البنيوية، والنقد ما بعد اللساني أو عبر اللساني.. وغير ذلك.

يرى بعضُ منتقدي هذه النظريّات والمصطلحات المعبّرة عنها، أنّها غير صحيحة عندنا لأنّها لا تنطبق على واقعنا، فنحن لم ننجز الحداثة حتّى نتحدّث عمّا بعدها، ولم نبنِ صناعة ذاتَ شأن كي نتحدّث عن المجتمع ما بعد الصناعيّ . في هذا الانتقاد شيء كبير من الصواب، لكنّ ما سأذهب إليه في مناقشة هذه النظريّات تسميةً ومضموناً هو أبعد من ذلك. فالانتقاد الذي ذكرناه لا يمسّ المضامين، ولا يضع اليد على خطأ في النظريّة ذاتها، بل يقتصر على انتقاد استخدامنا إيّاها، لأنّ في ذلك قفزاً فوق الواقع، فلا حاجة بنا – وفق الانتقاد المذكور – إلى الحديث عمّا بعد الحداثة إذا كنّا لا نزال نحبو في أوّل طريق الحداثة. 
 أظنّ أن نقد نظريّات ال(ما بعد) لا يجوز أن يقتصر على نقد استخدامها عندنا، لأنّ هذا يوحي بالتسليم بصحّتها وصواب استخدامها حيث نشأت. من الضروريّ أن نناقش النظريّة ذاتها لنتبيّن ما يمكن أن يكون فيها من خطأ جوهريّ قد يبطلها، أو – على الأقلّ – يجعلنا حذرين في استخدامها. وسأتناول على سبيل المثال نظريّة (ما بعد الحداثة)، مُصطلحاً ومضموناً.
1 – المصطلح: لا تُقدّم تسمية ما بعد الحداثة دلالة ما، أو معنىً، فهي تُشير إلى شيء مجهول، يأتي بعدَ شيء سَابق، وبالتالي فهي لا تفتح مجالاً لأيّ نوع من أنواع التعريف المُعتمَدة في المنطق القديم أو الحديث. قد يظنّ بعض مستخدمي هذه التسمية أنّها يمكن أن تُعَدّ شكلاً من أشكال التعريف بالسلب، على حدّ تعبير المناطقة، أي القول عن شيء ما إنّه ليس كذا أو 
كذا. 
ولكنّ مصطلح ما بعد الحداثة لا يوحي بذلك، كما أنّ مطلقيه لا يقصدون نفي الحداثة عمّا يتحدّثون عنه، بل يقصدون بلوغَه درجةً أعلى. 
فما هو هذا الأعلى؟ وهل يوحي المصطلح بشيء عنه؟ وما هي الفروق النوعيّة بينه وبين الحداثة؟ لا يمكن لأحد أن يستخلص من قولنا (ما بعد الحداثة) إجابة عن هذه الأسئلة، ولا يوحي المصطلح إلاّ بالترتيب الزمنيّ، وهو ما يتبيّن زيفُه عند مناقشة المضمون.
2 – المضمون: أهمّ معنى يتضمّنه (ما بعد الحداثة) هو أنّ الحداثة مرحلة من مراحل الفكر والثقافة، وأنّ لهذه المرحلة بداية ونهاية، وأنّها اكتملت فانتهت باكتمالها، ولم تعد قابلة للنموّ، وبالتالي، لم تعد قادرة على حمل ما هو جديد، لذلك وُلِدَ ما بعدها. فهل الأمر كذلك حقّاً؟ وهل الحداثة مرحلة تبدأ وتنتهي؟ 
 تاريخ الأفكار والثقافات يدحض ذلك، فالحداثة حلقات مستمرّة متتابعة لا توقّفَ فيها ولا انقطاع، ولا اكتمالَ لها أيضاً، لذلك ليس بعد الحداثة إلاّ الحداثة. 
وإذا كان مؤرّخو الفكر الحديث يقولون إنّ الحداثة بدأت في القرن السادس عشر، ويضعون تواريخ مختلفة لتلك البداية، فإنّ ذلك لا يعني أنّها ولدت فجأة، أو أنّها ليست تراكماً وتتابعاً أدّيا إلى تطوّر نوعيّ كبير، أي لا يعني أنّها مقطوعة الصلة بما قبلها . كما أنّه ليس مقنعاً ما يُقال من أنّ ما بعد الحداثة هو نقد لسلبيّات الحداثة ونواقصها، وتعبير عن خيبة أمل الشعوب من حداثة وعقلانيّة عُلّقت عليهما الآمال، هو نقد للعقلانيّة التي أدّت في كثير من الحالات إلى اللامعقول، ونقد لإجلال الفرديّة والتنوّع والخروج على النمطيّة، وغير ذلك ممّا كرّسته الحداثة فأدّى إلى الفاشيّة ونموّ النزعات التسلّطيّة وبروز الفرديّة السلبيّة الضارّة بدلاً من الفرديّة الإيجابيّة المبدعة. 
فهذا النقد هو جزء من النشاط الفكريّ الحداثيّ ذاته، ونقد نقاط الضعف في هذه الفلسفة العقلانيّة أو تلك هو متابعة للعقلانيّة ذاتها. 
 وإذا كان تطوّر الفكر هو تراكم وتتابع، فإنّ الحداثة هي سلسلة تتواصل حلقاتُها، وليس ما بعد حلقتها الحاليّة إلّا حلقة حداثيّة أخرى . يرى هاردت ونيغري مؤلّفا كتاب (الإمبراطوريّة – إمبراطوريّة العولمة الجديدة) أنّ الحداثة هي المعادل للرأسماليّة في مرحلة الإمبرياليّة، وما بعد الحداثة معادل للرأسماليّة في مرحلة العولمة. 
وقد يكون في هذا الرأي كثير من الصواب، لأنّ مصطلح ما بعد الحداثة راج رواجاً كبيراً منذ أواخر ستينيّات القرن العشرين إلى جانب مصطلح المجتمع ما بعد الصناعيّ، ولكنّ هذا لا يعني ما يدلّ على أنّ الحداثة أخلت المكان لما بعدها، فكما أنّ العولمة هي حلقة من حلقات تطوّر النظام الرأسماليّ ذاته، فإنّ الفكر الحداثيّ الذي يواكبها هو حداثة أيضاً . 
كم علينا أن تنوخّى الحذر في التعامل مع المصطلحات الثقافيّة 
الرائجة!