ضمن عنوان بناء الدولة واِستقلالية الجيش، أو في السيادة اِنطلاقاً من الوطنية والمواطنة، بواسطة الجيش، علينا أن نتساءل، ونفكر، ونفهم كل شيء من جديد. من جديد هذه تتعلق بكل ما يرتبط بكوننا ذاتاً وطنية قَبلَ أن نكون هَويَّة وطنية. أي بوصفنا إمكانات فعل، ولسنا أفعالا كانت. ومن جهة كوننا تعرضنا لتحطيم الذَّات الوطنية، وليس الهويَّة الوطنية فحسبُ، تارة عَبرَ الغرب، وتارة أخرى عَبرَ الشرق، فإنه تقتضي المصلحة العامة التوقف طويلا عند مسألة أساسيَّة في بناء الدولة تتمثل في بناء الجيش الوطني، على أساس مفاهيم الوطنية، والمواطنة.
[II]
ننطلق في بناء الدولة من أساسين إثنين تقوم الدولة، في المعنى الحديث لها، عليهما. العلم واِحتكار العنف. وإذا ما أُخذا على نحو بحيث أن لكل أساس منهما تكون ثَمَّةَ دوائر نفوذ وسلطة وتحديد، فإننا سوف نكون أمام دائرة بناء الجامعة، ودائرة بناء المصنع، ودائرة بناء القوة العسكرية المستقلة، من جهة، وسوف نكون ضمن نفوذ وسلطة وتحديد كل أساس من الأساسين في كل دائرة من الدوائر المتعلقة ببناء الدولة.
[III]
حينما نأخذ القوة العسكرية المستقلة من هذا المنظار، نضعها ضمن مفهوم المؤسسة المجتمعيَّة التي تعيد ضبط وتحديد وتنظيم العنف، وممارسته، والتهديد بممارسته. بهذا المعنى نفهم الجيش بوصفها مؤسسة مجتمعيَّة تحتكر العنف الذي تهدد الدولةُ بممارسته، أو تمارسه. إنَّه سلطة الدولة من جهة كونه، هو، وهو فقط، يحتكر ذلك. في الاِحتكار هذا نشير مباشرةً إلى الوظيفة المجتمعيَّة التي يتميز بها الجيش، كمؤسسة مجتمعيَّة، عن غيره من المؤسسات المجتمعيَّة. وهكذا نتساءل مباشرةً: كيف وأين وبواسطة أيَّة أدوات يتوفَّر الجيش على هذا الضرب من الاِحتكار بوصفه قد صار، بعد صيرورة تاريخية- مجتمعيَّة بعينها، المحدِّدُ للفعل العسكري داخل الدولة؟
[IV]
ينبغي أن نفهم الفعل العسكري أوَّلاً. حينما نقول الفعل العسكري فإننا لا نفصل ذلك عن الفعل المجتمعيّ، والفعاليَّة المجتمعيَّة التي ينضوي تحتها. يتدرج فهم العسكر بواسطة التوقف عند المحطات الآتية:
I- تتضمَّنُ الآيديولوجيا العسكرية، بالإضافة إلى الدفاع عن الوطن، معنى إرسال رسائل اِطمئنان وسلام للدول الإقليمية، والعالمية، والحد من نفوذ الدول الطامعة بموارد الدولة.
II- تتضمَّنُ مؤسسة العسكر مواقع تحديد لا ترتبط بأية مشاريع بعد- وطنية، أو قَبل- وطنية، مهما كانت، ومهما كان عمقها، وأهميتها.
III- يتوفَّر الفعل العسكري على هدف واحد بعينه يتمثَّل في المصلحة العامَّة التي تحددها الدولة وقد صارت توافقاً ضمن عقد مجتمعي شامل كامل بين المُكَوِّنات والعناصر المجتمعيَّة، على أساس الاِختلاف والتعدُّد
والتنوع.
IV- لا تشتمل معايير تحديد الفاعل في العسكر، من أسفل الهرم العسكري إلى أعلى درجة فيه، إلاَّ على معايير الإنسانيَّة، والوطنية، والمواطنة.
V- هكذا، مباشرةً نكون أمام الفعل العسكري بوصفه فعلاً مجتمعيَّاً يتوفَّر على اِحتكار العنف، والتهديد به، وبممارسته.
[V]
ولكن، كيف يمكن أن نظفر بفهم ذلك بواسطة ممارسته في البلدان التي تعاني من ديموقراطيات سياسية، لا مجتمعيَّة؟
إنَّ ذلك يقوم على إعادة بناء الآيديولوجيا العسكرية داخل الجيش. ومن جهة أن هذه الأخيرة ترتبط بالآيديولوجيا المجتمعيَّة الكُلِّيَّة، وبناء المجتمع، والإنسان فيه، ومن حيثُ إنَّ الديموقراطيات السياسية لا تتوفَّر على إمكانات الخروج من إشكاليَّة العلاقة بين السلطة والمؤسسة العسكرية، فإنَّ أي عمل وطني في السَّبيل إلى بناء الجيش هو في الحقيقة، قبليَّاً، يجب أن يبدأ من المؤسسات المجتمعيَّة التي تأخذ على عاتقها التنشئة المجتمعيَّة. بدءًا من العائلة، والمدرسة، والجماعات المجتمعيَّة المختلفة، وصولاً إلى
الجيش.
[VI]
حينما يتعرض مفهوم الوطن، في البلدان التي شهدت وتشهد تحطيماً له وتجاوزاً صريحاً له عَبرَ مشاريع لا تستخدم الوطن إلاَّ كأداة توسُّع، أو فرض سيطرة، أو كمجال حيوي لسياسات دول أخرى، فإنَّ عمليَّة إعادة البناء تلك يجب أن تبدأ من الصفر. بالضبط من لحظة اِنهيار كل شيء، وإعادة تحديد مفهوم الوطن على نحو صريح، أوَّلاً وفوقَ كُلِّ
شيءٍ.