حكاية راشد

الصفحة الاخيرة 2019/01/29
...

حسن العاني 
تعارفت الناس على أنَّ العراقي سريعُ الانفعال والغضب, ويمكنْ أنْ يدخل في (عراك) مع أقرب أصدقائه بعد تبادل أربع جمل منزعجة أو خمس, وأنه قليل الميل إلى المرح ولا يجيد صناعة (النكتة) أو روايتها, والسبب وراء ذلك كله يكمن في إرثه التاريخي, وقبل ذلك في مناخه الذي يمتد فيه فصل الصيف قرابة تسعة أشهر, وترتفع فيه درجات الحرارة – بعيداً عما تعلنه دائرة الأنواء الجوية – إلى أكثر من خمسين درجة مئويَّة في معظم تلك الأشهر… غير أنَّ ما تعارفت عليه الناس يفتقر إلى الدقة, فقاموس النكتة السياسية مثلاً, قبل عام 2003 وبعده يؤكد أنَّ العراقيين أسطوات ماهرون في صناعة الطرائف والنكات, ويتمتعون بدم خفيف كما يقال, وإلا كيف نفهم العلامة مصطفى جواد, شيخ مشايخ الأدب والثقافة والنحو واللغة, وهو يملأ استمارة وظيفيَّة تضم عدداً كبيراً من الأسئلة أحدها يقول (هل الزوجة على قيد الحياة؟), ويأتي ردُّ الدكتور جواد على النحو التالي (نعم.. هي حّيةٌ تسعى), إلا أنَّ هذا لا يمنع من الإقرار بأنَّ أشقاءنا المصريين يحتلون مرتبة متقدمة إنْ لم تكن الأولى عربياً وعالمياً، وحسناً فَعَلَ مثقفو مصر حين وثّقوا (النكات المصرية) في العديد من مؤلفاتهم وأفلامهم ومسلسلاتهم, وخاصة الصادرة عن كبار شخصياتهم السياسيَّة والأدبيَّة والفنيَّة…
في سبعينيات القرن الماضي, أطلقت الدولة العراقية ما عُرف يومها باسم (الحملة الوطنية الشاملة لمحو الأميَّة), واشتهرت في حينها عبارة (راشد يزرع) لأنها تصدرت الصفحة الأولى من كتاب القراءة الخاص بالأميين, وشاءت المصادفة في تلك المرحلة, إن الخلافات السياسية بين الحكومتين العراقية والمصرية قد بلغت أوجها, وبالذات بعد أنْ شنّ الإعلام العراقي حملة عنيفة ضد النظام المصري وزعيمه (أنور السادات), ولم تبقَ تهمة عمالة ولا صفة خيانة إلا وتمّ توجيهها تصريحاً وليس تلميحاً إلى الرئيس السادات, فما كان من الرجل وهو يلقي واحدة من خطبه الطويلة إلا أنْ توجه بالكلام إلى العراق, حيث أشار بلغة الأرقام إلى آلاف الأطنان التي تستوردها الحكومة العراقية سنوياً من المواد الغذائية, ثم ركز بلغة الأرقام كذلك على آلاف الأطنان المستوردة من الحبوب, وفي مقدمتها الرز والحنطة والشعير, حتى إذا فرغ من تقديم هذه الصورة السوداويَّة, تساءل بأسلوب النكتة القاسية والسخرية اللاذعة [الله…. هو راشد يزرع إيه]؟
وأنا أستذكر (حكاية راشد) أفزعتني المعلومات الرقميَّة التي يدلي بها مسؤولون كبار في هذه الوزارة أو تلك المؤسسة عبر الفضائيات, منها على سبيل المثال, إن مساحة الاراضي الزراعية في العام 2018 تراجعت رقعتها 16 مرة عما كانت عليه في العام 2003, وتقلصت أعداد النخيل من 30 مليوناً إلى 3 ملايين نخلة, وتخلى العراق عن مركزه (الأول) عالمياً سواء في أعداد النخيل أم كمية التمور المصدرة إلى المركز (الثامن), وخارطة بغداد من الجو ما بين (2004 - 2018) تشير إلى أنَّ المساحات الخضر تحولت الى عمائر وقصور, وغني عن القول إنَّ القمح والشعير والرز هي من بين استيراداتنا بكميات هائلة, ولسنوات عديدة كانت أسواقنا عامرة بالمنتوجات الزراعية المستوردة بما في ذلك الجزر والخس والرقي والخضراوات, فهل نعيد ما طرحه السادات بطريقة الكوميديا السوداء ونتساءل! الله… أُمّال وزارة الزراعة تعمل إيه؟!