لو كان أحدكم شجرة

ثقافة 2021/01/23
...

  هدية حسين
إذا أردت أن تكتب للأطفال فعليك أن توقظ الطفل في داخلك، وإلا ستكون كتابتك من دون مخيلة الطفل ومن دون اهتماماته، وقلة من الكتاب من استطاع أن يقدم أعمالاً مهمة تحرك المخيلة وتقدم حياة مفترضة لكنها قريبة جداً من الواقع، ومن بين تلك القلة الكاتبة الأميركية المتخصصة بأدب الأطفال كاثرين آبلغيت في روايتها (شجرة الأماني) التي لا تقتصر متعتها على الأطفال فقط وإنما الكبار أيضاً.
كُتِبت الرواية بأسلوب بسيط بالمفردات عميق بالمعنى ثري بالمعلومات، يأخذنا في رحلة لحياة شجرة من أشجار البلوط عمرها أكثر من مئتي سنة، اتفق الناس على تسميتها (شجرة الأمنيات) لأنهم منذ عشرات السنين، وجيلاً بعد جيل، يأتون إليها في يوم محدد من السنة ويودعون بين أغصانها وفي فجوات جذعها أمانيهم لعلها تتحقق.
ربما سمع الكثير منا بحكاية تعليق الأماني على الأشجار أو بين قضبان الجسور أو في أضرحة الأولياء، لكن المختلف هنا أن شجرة البلوط هذه هي الساردة، تتحدث عن حياتها وتاريخ المكان الذي هي فيه، وكذلك تكشف أسرار الأمنيات، وقبل ذلك تحكي عن معاناتها مع الناس الذين يجرحون جذعها ويقطعون غصونها، أي أنها شجرة ذات مشاعر لا تختلف عن مشاعر البشر، 
والممتع في هذه الرواية هي الحكايات التي تنبثق منذ عشرات السنين قرب هذه الشجرة، وبين سكانها من الطيور والحشرات وبعض الحيوانات، حتى أن القارئ يمضي مع أحداث الرواية كما لو أنها حقيقية، وذلك لما تتمتع به الكاتبة من إقناع بمخيلة سخية ومعلومات عن عالم النبات والحيوان وما يفعله بعض البشر تجاه تلك المخلوقات من قسوة لا تتوقف عند حد، وتطرح مفاهيم غابت عن الكثير منا في زحمة 
الحياة.
وإذا لم تكونوا قد سمعتم  ما تقوله الأشجار فتعالوا الى شجرة الأماني، أرهفوا السمع وأنتم تقفون جوارها، انصتوا لما تهمس به، إنها كائن يشعر مثلكم، يفرح ويتألم، يحكي عن كل ما مر به في عمره المديد، اخرجوا قليلاً من عالمكم المحدود وانطلقوا الى المخيلة الثرة في هذه الرواية، وستتغير نظرتكم الى الأشياء من حولكم، فقط ثقوا بما تحكيه هذه الشجرة المعمرة، التي تتحول الى لون أحمر في الخريف، وتقول عن نفسها (تعالوا في تشرين الأول حينما أبدو كما لو أنني أشتعل، عجيب أن فوج الإطفاء لا يحاول أن يخمدني)، وتروح تحكي عن صفاتها وعن حياتها الطويلة منذ أن كانت بذرة، وعن قسوة الطبيعة، وقسوة بعض الحيوانات، وكيف أن بعض الناس يفرطون في تشذيبها أو يهملونها ويهجرونها (ضربتني الصواعق، هددتني الفؤوس والمناشير والأمراض، تحملت مخالب السناجب الحادة ووخز نقار الخشب، تسلقتني القطط وتركت الكلاب آثارها عندي، لديّ كأي كائن آخر أوجاعي وآلامي)، وتحكي أيضاً عن رصدها لبعض أفعال البشر، وعن صداقاتها لهم، وللحيوانات التي تسكن بين أغصانها، وتبقى (بونغو) صديقة مقربة منها، وهي غراب، أنثى، تبقى معها حتى نهاية 
الرواية.
 تتنوع الحكايات لدى الشجرة، وتأخذ طابعاً تاريخياً عن المكان الذي تعيش فيه، فترفد القارئ بمعلومات تاريخية عن أولئك الأقوام الذين جاؤوا الى هذه المدينة من بلدان أخرى، وكيف أنهم لقوا الترحيب من البعض، والعداء من البعض الآخر الى الحد الذي يصل الى العنصرية، ومنها ما لقيته أسرة الطفلة سمر بسبب أن أمها تضع غطاءً على رأسها (في إشارة من الكاتبة الى أن هذه الأسرة مسلمة)، فيقوم أحدهم بوضع ورقة في تجويف الشجرة تحمل عبارة (ارحلوا) وكان يقصد مستأجري أحد البيتين القريبين من الشجرة، وهم أسرة سمر، فتضطر فرانسيسكا صاحبة البيتين الى استدعاء البوليس، وتقرر اقتلاع الشجرة لأن وجودها يعد مدعاة لكثير من الإزعاج، بسبب كثرة الوافدين إليها من أجل تحقيق الأماني، ولأنها تمد جذورها عميقاً في الأرض فتخرب الأنابيب الصحية.
ترى ماذا ستفعل الشجرة عندما يأتي إليها قاطعو الأشجار بمعداتهم، مع شاحنة مجهزة بمناشير وفرّامة، وكيف سيتصرف سكان الشجرة من الطيور والحيوانات أزاء ما يرونه ويهدد ليس فقط شجرتهم بل حياتهم التي ألفوها وصداقاتهم التي ستتبدد؟، وأين الناس الذين كانوا يأتون الى الشجرة ليضعوا أمانيهم في قلبها؟، بل ما هو مصير تلك الأماني؟.
 عندما تنتهي من قراءة هذه الرواية ستقول مع نفسك: يا له من عالم ضاج بالحياة، ويا لهذه المخيلة التي أبعدتنا ولو لوقت محدد بالقراءة عن الواقع الذي يصدمنا كل يوم، بحروبه وأمراضه، وصراعاته، ومعاركه التي لا تنتهي.