إشكاليَّة المنهج

منصة 2021/01/26
...

جواد علي كسار
 
لو اخترنا أبرز عملين وثّقا لتاريخ الأفكار ونشوئها واتجاهاتها ورموزها، في إطار ما أُطلق عليه بعصر النهضة في العالم العربي، لوجدنا مقولة المنهج قد اكتسبت فيهما حيزاً متميزاً، وأنَّ المحاولتين كلتيهما انطلقتا من بؤرة منهجيَّة واحدة. فمع المحاولة الأولى التي مثّلها كتاب «الفكر العربي في عصر النهضة» يومئ البرت حوراني (ت: 1993م) إلى وجود استمراريَّة من نوعٍ ما ظلّت تتحكم بمسارات الفكر الإسلامي على مدار قرون، لكن ما لبثت هذه الاستمرارية أنْ انقطعت بتعرّف علماء العرب ومفكريهم «إلى أفكار أوروبا الحديثة ومؤسساتها» وإحساسهم بالتحدّي، الذي تطلّب استجابة، تمثلت في ما بعد بالاتجاهات الفكرية والاجتماعية، والسياسية تالياً، التي شهدها العالم العربي.
يتمثل حجر الزاوية في محاولة حوراني التي ظلّت تواصل تأثيراتها المنهجيَّة في عقول الباحثين، عقوداً متتالية في ما بعد؛ يتمثل باكتشاف النخب العلمائية والفكرية لأوروبا، وما أملاه هذا الاكتشاف من إحساس بالتحدي، تجاوبت معه تلك النخب عبر أعمال الجيل الأول المتمثل برفاعة رافع الطهطاوي وخير الدين حسيب وبطرس البستاني قبل أنْ تنتقل الراية إلى خط جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده، ثُمّ نشوء تيار الإسلام والمدنيَّة الحديثة، الذي ازدهرت إلى جواره طلائع العلمانيَّة واتجاهات القوميَّة العربيَّة، كلّ ذلك بحسب تنظير حوراني وقراءته للمشهد
الفكري. لقد استند حوراني في ملء مكوّنات هذا التصوّر إلى منهجٍ مركّبٍ سياسي ـ اجتماعي، يقوم على رؤية انتقائيَّة في التاريخ للأفكار والتوثيق لها، كما اعترف بها مقدمة الكتاب.
لا تخرج المحاولة الثانية التي نعنيها عن خط المحاولة الأولى منهجياً. فعند العودة إلى كتاب «المثقفون العرب والغرب» الذي أرّخ لتاريخ الأفكار في العالم العربي على مدار نصف قرن تقريباً، نجد مؤلفه الباحث الفلسطيني هشام شرابي (ت: 2005م) يصدر من أصل موضوعي يفيد، أنَّ المجتمع العربي عاش يقظة خلال القرن التاسع عشر، جاءت «نتيجة التحدّي الذي فرضه الغرب على كلّ مستويات الوجود الاجتماعي، السياسي، الاقتصادي والنفسي» كان لا بُدّ أنْ يتجاوب المثقفون مع هذا التحدّي، ويتفاعل معه المجتمع عبر التحديث والتغيير الاجتماعي. 
إنه المنطق نفسه والمنطلق ذاته الذي استندت إليه تجربة حوراني التنظيريَّة، عاد ليتكرّر مع شرابي الذي قدّم دراسة في التاريخ الفكري تقوم على المنهج الاجتماعي ـ النفسي، والسعي لاكتشاف المكوّنات الاجتماعيَّة والنفسيَّة للأفكار، وهو يكتب: «تحليلنا سيركز على الأرضيَّة الاجتماعيَّة حيث نبت مثقفو هذه الحقبة التاريخيَّة».
يعتقد شرابي أنَّ التحليلات الاجتماعية والنفسية (أو سيوسيولوجية المعرفة) تُعمّق الفهم أكثر في هذا النمط من الدراسات، وأنها أكثر جدوى من الأسلوب الوصفي لتاريخ الأفكار، وأعمّ فائدة من المنهج المعرفي الذي استند إليه محمد عابد الجابري وأضرابه من الابستمولوجيين، حيث شدّد عليهم النكير في كتاب تقويمي كبير النفع، لحركة الفكر العربي واتجاهاته ورموزه، أصدره أواخر القرن الماضي، بعد مضي نحو نصف قرن على كتابه الأول، بعنوان: «النقد الحضاري للمجتمع 
العربي».