خلافاً لما هو شائعٌ ومألوف أحتفظ لنفسي دائماً بفهمٍ اضافيٍّ خاص لمعنى التاريخ على أنّهُ قطعة صلصاليّة طيعة تتعاقبُ على عجنها بشكلٍ دائمٍ ومستمر يدان تعيدانِ تشكيلها مرةً بعد مرةٍ بصورٍ وأشكالٍ مختلفة تبعاً لدوراتِ اختلافٍ منطِقية للزمانِ والمكانِ وتباينٍ في الوعي المتجدد بحركةِ المجتمعاتِ الانسانية وتشكلِ الأمم والأوطان وتغيّر الظروفِ والأحداثِ والأشخاص.هاتان اليدان هما القراءة والكتابة.. ومن دونهما لن يبدوَ لنا التاريخُ إلّا كائناً مشوّهاً وناقصاً.. فالتاريخ هذا يُكتبُ مرةً لكنهُ يُقرأ عدة مرات.. وفي قراءتهِ المتكررة هذهِ ثمة دائماً كتابة جديدة مستمرة.. وهكذا دواليك. انطلاقاً من هذا التعريف المبسط لمفهوم التاريخ يمكنني الاقتراب بحذرٍ من تخومِ معنى جديد بوسعي القول إنّهُ حصيلة تلازمٍ وتآصرٍ معرفي بين تلك الثنائية الأزلية لقراءةِ التاريخ وكتابتهِ مع التأكيد على النأي التام لأن تكون ثمرة تلك الثنائية انتاج بحثٍ تاريخيٍّ تسجيليٍّ صِرف.. بمعنى أن الحصيلة النهائية لذلك لن تقدمَ التاريخ للقارئ بوصفهِ سجلاً مفتوحاً يمتلئُ بالكثير من اللمساتِ التسجيليةِ ال طازجة والمشاهداتِ الآنية المغرقة بتوابلِ الأحداثِ التفصيلية.. بل إن الرهانَ على تعاطٍ جديدٍ كهذا سيسهمُ في خلقِ واثراءِ منهجٍ مرنٍ ومتحركٍ يعتمدُ المزاوجة الواعية بين قراءةِ التاريخ وكتابتهِ في الوقتِ ذاتهِ كما يزهدُ عن الاستغراقِ في كثيرٍ من صداعِ الجزئيات ويرتقي ليصبح التفافاً استكشافياً لما حولهُ ومحايثة واعية منهُ ولهُ وإليه..
هذا النوع الجديد من التعاطي مع التاريخ سيجدُ القارئُ فيهِ غوصاً عميقاً في صميمِ كل أحداثِ التاريخ وما وراءها أيضاً وسيضفر بقراءةٍ مستفيضة لما بين سطورها بمواكبةٍ انطباعيةٍ شاملة ستخلو من الكثير من الانفعالياتِ الآنية.. وكثمرةٍ لذلك أيضاً سيجدُ القارئُ "كتابة" مغايرة للسائدِ والمتداول.. كتابة فيها القليل جداً من جهودِ الرصدِ الصوري الميداني وحُمى النقلِ التسجيلي والتدويني.. لأن سعياً جديداً كهذا سيجليَ عن الأحداث صدأ ذلك كلهُ فهذهِ "الكتابة" بالنهاية ليست خلطة متنوعة لمجموعة ريبورتاجات أو تقارير صحفية كتلك التي يركنُ البعض من كُتّابها بكسلٍ متثائب لاستنساخِ الوقائع ونقلها كما هي.. لكن بدل ذلك كله سيحظى القارئ بمنهجٍ مغايرٍ آخر يعتمدُ الكثيرَ من الانصاتِ والتأملِ والاستقراءِ والاستنباطِ والتنقيبِ لما بين السطور.. تلك المتلازمات الثنائية الجدلية المهمة التي لا غنى عنها للوصولِ إلى الجذور العميقة من جبالِ الجليد المستترة والبعيدة عن الأنظارِ على الدوام.. منهجٌ كهذا يعدُّ مسعىً حثيثاً لمقاربةٍ من نوعٍ آخر تطمحُ لرسمِ صورٍ غير مألوفة لكثيرٍ من الحقائق التي غالباً ما تبدو بعيدة جداً وغير مباحة للكثيرين.. والغاية من ذلك كلهِ طمعٌ أكبر في فهمٍ أوسع واستيعابٍ أشمل لحركةِ تاريخ الأممِ والشعوبِ والأوطان.
لكن مهلاً.. فماذا يعني أن يكون هذا النتاج الجديد تجسيداً حياً لمفهومي قراءةِ التاريخ وكتابتهِ في آنٍ واحد؟
وللإجابةِ عن هذا السؤال الكبير وبالعودةِ إلى دورِ متلازمةِ القراءةِ والكتابةِ في عمليةِ عجنِ وتشكّلِ صلصال التاريخ المستمرة أقول أن إحدى أهم مرجعيات هذا المنهج الجديد هي نتاج "قراءة" متأنية لمجموعةٍ من الأحداثِ والوقائعِ يحاولُ الكاتبُ الباحثُ فيها أن يسلّط الأضواءَ على مقاطع زمنية مجتزأة بتسلسلٍ زمنيٍّ متتال.. وفي الوقت ذاتهِ يسعى لـ "كتابة" ذلك المقطع الزمني نفسه لكن بعيون مغايرة تختلفُ فيها زوايا النظر الراصدة عن السائدِ والمألوف وتبتعدُ كثيراً عن تفاصيل النظرةِ التسجيليةِ المباشرة.. بمعنى آخر أن مهمة هذا الكاتب الباحث في أن يرتفعَ ويترفّعَ أيضاً بزاويةِ نظرهِ عن الأرض بتعالٍ محسوبٍ كي يفسحَ المجال لرؤيةٍ أشمل وأوضح وأقل سراباً ودخاناً وضبابية.. رؤية يستطلعُ القلمُ فيها كلَّ الأحداثِ والوقائع منتفعاً من ميزةِ حياديةِ واستقلاليةِ وصفاءِ الأعالي التي لا تختلط فيها الأصواتُ والصورُ والانفعالات.. ومن الأهمية بمكان أن يتم ذلك كلهُ تحت الوعي الكامل وبشكلٍ مقصود مُسبقاً فالتفاعل لا يشبهُ الانفعال قطعاً.. والرسم لا يشبهُ النسخَ بالضرورة.
هنا.. ومع مواصلة التقدم بالقراءة التفاعلية سيتأكدُ القارئُ بالفعل أن لهذا الجهد التنقيبي المغاير للسائد متاخَمة قريبة للأحداثِ والوقائعِ والمتغيرات كأي ظلٍّ واعٍ ملاصق لكن من دونِ التورط أبداً بتهمةِ الالتصاقِ التقليديّ المُشاع.. لأن جهداً كهذا يستحيلُ أن يستعيرَ كسلَ المرايا البلهاء برغم اغراءِ وجاذبيةِ المرايا في النقلِ والنسخِ والاجترار..