بقدر ما يكون خوفنا كبيراً من الفيروس يكون حكيماً وحليماً أيضاً

منصة 2021/01/27
...

  أورهان باموك
 ترجمة: جمال جمعة
على مدى السنين الأربع الماضية، كنت أكتب رواية تاريخيَّة تدور أحداثها في العام 1901 خلال ما يُعرف باسم جائحة الطاعون الثالث، اندلاع الطاعون الدَّبلي الذي قتل ملايين الأشخاص في آسيا ولكن ليس كثيرًا في أوروبا. على مدار الشهرين الماضيين، أمطرني الأصدقاء والأسرة والمحررون والصحفيون الذين يعرفون موضوع تلك الرواية، “ليالي الطاعون”، بوابلٍ من الأسئلة حول الأوبئة. إنهم أكثر فضولاً بشأن أوجه الشبه بين جائحة الفيروس التاجي الحالية والتفشيات التاريخيَّة للطاعون والكوليرا. ثمة وفرة في التشابهات. على امتداد التاريخ البشري والأدبي، ما يجعل الجوائح متشابهة ليس مجرد القواسم المشتركة بين الجراثيم والفيروسات، بل استجاباتنا الأولية التي كانت دائمًا هي نفسها. 
الاستجابة والإنكار
لطالما كانت الاستجابة الأولية لتفشي الوباء هي الإنكار دائماً. ولطالما تأخرت الحكومات الوطنية والمحلية في الاستجابة وحرّفت الحقائق وتلاعبت بالأرقام لإنكار وجود تفشّي المرض.
في الصفحات الأولى من (جورنال عام الطاعون)، وهو العمل الأدبي الفريد الأكثر إضاءة على الإطلاق الذي كتب عن العدوى والسلوك البشري، ذكر دانيال ديفو أنه في العام 1664، حاولت السلطات المحليَّة في بعض أحياء لندن جعل عدد الوفيات بالطاعون يبدو أقل مما هو عليه من خلال تسجيل أمراض مُختَلقة أخرى، باعتبارها سبب الوفاة المسجّل.
في رواية “الخطيبان” من العام 1827، التي ربما تكون أكثر الروايات التي كتبت عن تفشي الطاعون واقعيةً على الإطلاق، يصف الكاتب الإيطالي ألساندرو مانزوني ويساند غضب السكان المحليين على الاستجابة الحكومية لطاعون عام 1630 في ميلانو. فعلى الرغم من الأدلة، يتجاهل حاكم ميلانو التهديد الذي يشكّله المرض ولا يلغي حتى احتفالات عيد ميلاد أحد الأمراء المحليين. أظهر مانزوني أنّ الطاعون ينتشر بسرعة لأن الإجراءات التي تم فرضها لم تكن كافية، وكان تطبيقها ضعيفًا ولم يستجب مواطنوه لها.
تشير العديد من أدبيات الطاعون والأمراض المعدية إلى أنَّ اللامبالاة وعدم الكفاءة والأنانيَّة لدى من هم في السلطة على أنها المثير الوحيد لغضب الجماهير. لكنَّ الأدباء الأفضل، مثل ديفو وكامو، يتيحون لقرائهم إلقاء نظرة خاطفة على شيء آخر غير السياسة الكامنة تحت موجة الغضب الشعبي، شيء جوهريّ في الحالة
 الإنسانية.
توضح لنا رواية ديفو أنَّ وراء الاحتجاجات اللامتناهية والحنق اللامحدود، يكمن كذلك غضب على المصير، ضد الإرادة الإلهية التي تشهد وربما حتى تتغاضى عن كل هذا الموت والمعاناة الإنسانية، وغضب ضد المؤسسات الدينية المنظمة التي تبدو غير متيقنة من كيفية التعامل مع أيّ منها.
الاستجابات الإنسانية العالمية الأخرى للأوبئة والتي على ما يبدو عفوية كانت دائماً مصدراً لخلق الشائعات ونشر المعلومات الكاذبة. خلال الأوبئة الماضية، كانت الشائعات بشكل أساسي تغذيها المعلومات الخاطئة واستحالة رؤية الصورة الكاملة.
كتب ديفو ومانزوني عن الناس الذين ظلوا يحتفظون بمسافة عن بعضهم البعض عندما يلتقون في الشوارع خلال الطواعين، لكنهم أيضًا يسألون بعضهم البعض تزويدهم بالأخبار والقصص من مسقط رأسهم وأحيائهم، لكي يتمكنوا من تجميع صورة أوسع للمرض. وفقط من خلال تلك الرؤية الأوسع يمكنهم أنْ يأملوا في الإفلات من الموت والعثور على مكان آمن للمأوى.
 
الاعتماد على الخيال
في عالم بلا صحف، ولا راديو، ولا تلفزيون، أو إنترنيت، لم يكن لدى الأغلبية الأمّية سوى خيالاتهم التي تمكنهم من فهم أين يكمن الخطر، ومدى شدته، وحجم العذاب الذي يمكن أنْ يسببه. هذا الاعتماد على الخيال منح خوف كل شخص صوته المنفرد الخاص، وأضفى عليه صفة شاعرية ــ محلية وروحانية، وأسطورية.
الشائعات الأكثر شيوعًا خلال تفشّيات الطاعون كانت تدور حول من الذي نقل المرض، ومن أين جاء. في منتصف شهر آذار (مارس) تقريبًا، عندما بدأ الذعر والخوف ينتشران عبر تركيا، أخبرني مدير المصرف الذي أتعامل معه في جيهانغير، الحيّ الذي أسكن فيه في إسطنبول، أخبرني بنبرة العارف أن “هذا الشيء” هو الرد الصيني الاقتصادي الحاسم على الولايات المتحدة وبقية العالم.
مثلما الشر نفسه، كان الطاعون يصوَّر دائمًا على أنه شيء يأتي من الخارج. لقد ضرب في مكان آخر من قبل، ولم يتم عمل ما يكفي لاحتوائه. في روايته عن انتشار الطاعون في أثينا، يبدأ ثيوسيديدس بالإشارة إلى أنَّ التفشي قد بدأ بعيدًا، في إثيوبيا ومصر.
المرض غريب، يأتي من الخارج، ويُجلب بنيّة خبيثة. الشائعات حول الهوية المفترضة لناقليه الأصليين هي دائمًا الأكثر انتشارًا وشعبية.
في “الخطيبان”، يصف مانزوني شخصيةً كانت راسخة من الخيال الشعبي أثناء تفشي الطاعون منذ العصور الوسطى: كل يوم ستكون ثمة شائعة حول هذا الوجود الشيطاني الخبيث الذي يجول في الظلام ملطِّخاً مقابضَ الأبواب ونوافير المياه بسائل ملوَّث بالطاعون. أو ربما يُتّهم رجل عجوز متعَب كان قد جلس ليستريح على الأرض داخل كنيسة، من قبل امرأة عابرة، بأنه يمسح بمعطفه ما يحيط به لينشر المرض. وسرعان ما يتجمع عليه حشد من الغوغاء.
هذه الفورات غير المتوقعة التي لا يمكن السيطرة عليها، والعنف، والأقاويل، والذعر، والتمرد هي قواسم مشتركة في مرويات جوائح الطاعون من عصر النهضة فصاعدًا. ألقى ماركوس أوريليوس اللوم على المسيحيين في الإمبراطورية الرومانية في التسبب بطاعون الجدري الأنطوني، لأنهم لم يشاركوا في طقوس إرضاء الآلهة الرومانية. وخلال الأوبئة اللاحقة، اُتِّهم اليهود بتسميم الآبار في كل من الإمبراطورية العثمانية وأوروبا المسيحية.
تاريخ وأدب الأوبئة يظهران لنا أن شدة المعاناة، والخوف من الموت، والرهبة الميتافيزيقية، والشعور بالغرابة الذي يعيشه السكان المنكوبون، سيحدد أيضًا مدى عمق غضبهم واستيائهم السياسي.
 
تأثير الشائعات
كما هي الحال مع جوائح الطاعون القديمة، كان للشائعات التي لا أساس لها من الصحة والاتهامات القائمة على أساس الهوية القومية، والدينية، والعِرقية، والإقليمية تأثير ملحوظ على كيفية تطور الأحداث أثناء تفشي الفيروس التاجي. كما لعبت وسائل التواصل الاجتماعي ووسائل الإعلام اليمينية الشعبوية دورها في تضخيم الأكاذيب أيضاً.
لكننا اليوم نمتلك إمكانية الوصول إلى مقدار من المعلومات الموثّقة حول الجائحة التي نعايشها حالياً أعظم بكثير مما كان لدى الناس في أية جائحة سابقة. وهذا أيضًا ما يجعل الخوف الشديد والمبرَّر الذي نشعر به اليوم مختلفًا تمامًا. تتم تغذية ذعرنا بدرجة أقلّ من الشائعات ويؤسَّس بشكل أكبر على المعلومات الدقيقة.
عندما نشاهد النقاط الحمراء وهي تتضاعف على خرائط بلداننا والعالم، ندرك أنه لم يعد هناك مكانٌ نهرب إليه. ولا نحتاج حتى إلى خيالنا للبدء بالخوف من الأسوأ. إننا نشاهد الفيديوهات لقوافل الشاحنات العسكرية السوداء الكبيرة وهي تنقل جثث الموتى من البلدات الإيطالية الصغيرة إلى محارق الجثث المجاورة كما لو كنا نشاهد مواكب جنازاتنا الشخصية.
ومع ذلك، فالرعب الذي نشعر به يستبعد الخيال والفرديّة، ويكشف عن مدى التشابه غير المتوقع بين حيواتنا الهشة والإنسانية المشتركة في حقيقة الأمر. الخوف، مثل فكرة الموت، يجعلنا نشعر بالوحدة، لكن إدراك أننا جميعًا نعيش معاناة متشابهة يخرجنا من وحدتنا.
 
لسنا وحيدين
معرفة أن البشرية جمعاء، من تايلاند إلى نيويورك، تشاركنا مخاوفنا بشأن كيفية ومكان استخدام كمامة الوجه، والطريقة الأكثر أمانًا للتعامل مع الطعام الذي اشتريناه من البقال أو الحجر الصحي، هو تذكير مستمر بأننا لسنا وحيدين. إنها تولّد شعورًا بالتضامن. لا نعود محاصرين بخوفنا، نكتشف فيها التواضع الذي يحثّنا على التفهّم المتبادل.
عندما أشاهد الصور المتلفزة لأشخاص ينتظرون خارج أكبر مستشفيات العالم، أستطيع أن أرى أن رعبي يتشارك فيه بقية البشر، ولا أشعر بأنني وحيد. مع مرور الوقت، أشعر بخجل أقل من خوفي، وأرى بشكل متزايد أنه استجابة معقولة تمامًا. أتذكر ذلك القول المأثور عن الجوائح والطواعين الذي يقول “إن الخائفين يعيشون مدة أطول”.
مع مرور الزمن أدركت أن الخوف يثير استجابتين مختلفتين في داخلي، وربما فينا جميعًا. يجعلني في بعض الاحيان أنطوي على نفسي، نحو العزلة والصمت. لكن في أوقات أخرى، يعلّمني أن أكون متواضعاً وأن أمارس التضامن.
بدأت أحلم بكتابة رواية عن الطاعون لأول مرة منذ 30 عامًا، وحتى في تلك المرحلة المبكرة كان تركيزي منصباً على الخوف من الموت. في العام 1561، نجا الكاتب أوجييه غيسيلين دي بوسبك (الذي كان سفير إمبراطورية هابسبورغ إلى الإمبراطورية العثمانية في عهد سليمان القانوني) من الطاعون في اسطنبول باللجوء لمكان يبعد ست ساعات في جزيرة برينكيبو، أكبر جزر جنوب شرق اسطنبول في بحر مرمرة. 
وأشار إلى قوانين الحجر الصحي غير الصارمة التي أعلنت في اسطنبول وصرّح بأن الأتراك “جبريّون” [يؤمنون بالقضاء والقدر] بسبب دينهم، الإسلام.
 
أفكار قدريّة
بعد نحو قرن ونصف، حتى الحكيم ديفو كتب في روايته عن طاعون لندن أن الأتراك “يدينون بأفكار قدريّة، وأن نهاية كل إنسان مكتوبة عليه”. ستساعدني روايتي الطاعونية على التفكير في “قدريّة” المسلمين في سياق العلمانية والحداثة.
قدريّة كانت أم غير ذلك، تاريخياً كان من الصعب إقناع المسلمين بتحمّل إجراءات الحجر الصحي خلال الجائحة مقارنة بالمسيحيين، خاصة في الإمبراطورية العثمانية. الاحتجاجات ذات الدوافع التجارية التي يميل أصحاب المتاجر والأهالي القرويون من جميع المعتقدات إلى إثارتها حين يعارضون الحجر الصحي كانت تتفاقم بين المجتمعات المسلمة بسبب مسائل تتعلق باحتشام المرأة والخصوصية المنزلية. المجتمعات المسلمة في بداية القرن التاسع عشر اشترطت “أطباء مسلمين”، لأن معظم الأطباء في ذلك الوقت كانوا من المسيحيين، حتى في الإمبراطورية العثمانية.
منذ خمسينيات القرن التاسع عشر، ومع انخفاض تكلفة السفر بالمراكب البخارية، أصبح الحجاج المسافرون إلى الأراضي المقدسة الإسلامية في مكة المكرمة والمدينة المنورة من أكثر الناقلين والناشرين للأمراض المعدية خصباً في العالم. مع دورة القرن العشرين، وللسيطرة على تدفق الحجاج إلى مكة والمدينة والعودة إلى بلادهم، أنشأ البريطانيون أحد مكاتب الحجر الصحي الرائدة في العالم في الإسكندرية، مصر.
هذه التطورات التاريخية كانت مسؤولة ليس فقط عن نشر الفكرة النمطية عن “قدريّة” المسلمين، ولكن أيضًا عن الاعتقاد المسبق بأنهم والشعوب الأخرى في آسيا كانوا هم المنشئون والحاملون الوحيدون للأمراض 
المعدية.
عندما يحلم راسكولينكوف، بطل الرواية، بالطاعون في نهاية رواية فيودور دوستويفسكي (الجريمة والعقاب)، فإنه يتحدث ضمن التقليد الأدبي نفسه: “لقد حلم بأن العالم كله قد حكم عليه بطاعون غريب جديد ورهيب قادم إلى أوروبا من أعماق آسيا “.
في خرائط من القرنين السابع عشر والثامن عشر، رُسمت الحدود السياسية للإمبراطورية العثمانية عند نهر الدانوب، حيث أعتُقد أن العالم الذي يقع ما وراء الغرب كان يبدأ من هناك. لكن الحدود الثقافية والأنثروبولوجية بين العالمين كانت مؤشّرة بالطاعون وحقيقة أنَّ أرجحيَّة الإصابة به كانت أعلى بكثير شرق نهر الدانوب. كل هذا لم يعزز فقط فكرة القدريَّة الفطريَّة التي تُنسب غالبًا إلى الثقافات الشرقية والآسيوية، ولكن أيضًا الفكرة المسبقة القائلة بأنَّ الطواعين والجوائح الأخرى تأتي دائمًا من أحلك دهاليز الشرق.
 
السرديات التاريخيَّة
تخبرنا الصورة التي نلتقطها من العديد من السرديات التاريخية المحلية أنه حتى أثناء جوائح الطاعون الكبرى، فإنّ المساجد في إسطنبول ظلت تقيم الجنازات، والمعزّون ظلوا يزورون بعضهم الآخر لتقديم التعازي والمعانقات الحزينة، وبدل القلق بشأن مصدر المرض وكيف كان ينتشر، كان الناس أكثر قلقاً بخصوص الاستعداد الملائم للجنازة التالية.
ومع ذلك، فخلال جائحة الفيروس التاجي الحالية، اتبعت الحكومة التركية نهجًا علمانيًا، حظرت فيه إقامة الجنائز على الذين توفّوا بسبب هذا المرض، واتخذت قرارًا لا لبس فيه بإغلاق المساجد أيام الجمعة، حيث يجتمع المصلّون عادةً في مجموعات كبيرة خلال صلاة الأسبوع الأكثر أهمية. لم يعارض الأتراك هذه الإجراءات، فبقدر ما يكون خوفنا كبيرًا، يكون حكيماً وحليماً أيضًا.
من أجل عالم أفضل ينبثق بعد هذا الوباء، ينبغي علينا احتضان وتغذية مشاعر التواضع والتضامن التي ولّدتها اللحظة الحالية.
 
The New York Times