مقهىً وأَنتَ مع الجريدة جالسٌ
لا، لَسْتَ وحدَك. نِصْفُ كأسك فارغٌ
والشمسُ تملأ نصفها الثاني...
ومن خلف الزجاج ترى المشاة المسرعين
ولا تُرَى إحدى صفات الغيب تلك
ترى ولكن لا تُرَى
كم أَنت حُرُّ أَيها المنسيُّ في المقهى
قصيدة (وحدك) إحدى روائع محمود درويش. أنا متاكدة أنَّ كل من وقعت عيناه على هذه الكلمات تخيل نفسه أو ربما تخيل محمود درويش وهو يجلس لوحده في المقهى، بين يديه جريدة، وأمامه كأس نصفه فارغ، يراقب الناس من الزجاج، والشمس وسط السماء، ليس هذا فحسب، بل تخيَّل شعور درويش أو ربما شعر بما شعر به درويش، مثل الحرية والنسيان أو ربما الغياب.
هذه اللغة وهذه الصورة الشعرية لن تختلف حتى لو تُرجمت القصيدة الى أي لغة أخرى؛ وهنا تكمن عظمة اللغة، نقل المعنى والمشاعر، وهي أهم ما تميّز الجنس البشري، وقد يتساءل أحدكم: الحيوانات لديها لغتها الخاصة، فالنحل على سبيل المثال لديه لغته الخاصة التي عن طريقها يُنظم العمل بين أفراد النحل في الخلية، وكذلك النمل لهم لغتهم الخاصة، الكلاب حين تعوي، والأسود حين تزأر، هي بذلك تبعث رسالة مفادها أنَّ هذا المكان مكانها وغير مسموحٍ لأحدٍ أنْ يتواجد فيه؛ إذنْ، لماذا تعدُّ اللغة البشريَّة هي الأعظم؟
أجاب علماء اللغة عن هذا، وقالوا: إنَّ لغة الحيوانات هي ضيقة ومحدودة ومباشرة، تهدف إما لتنظيم العمل، كما عند النمل والنحل، أو للسيطرة كما لدى الكلاب والأسود، لكن حين قال شكسبير على لسان روميو، على سبيل المثال وهو يصف جولييت: «جوليت هي الشمس» جميعنا فهم المعنى، جولييت جميلة جداً، وقد اختار الشمس لأنه انكليزي، حيث لندن عاصمة الضباب، فللشمس قيمة جماليَّة كبيرة، بينما يعبر العربي ابن البيئة الصحراويَّة الحارة عن فرحه لسماع خبرٍ ما، نراه يقول: لقد أثلجت صدري، حيث الثلج له قيمته الفريدة عند ابن الصحراء، كل هذا والذي يطلق عليه المجاز في اللغة الإنسانيَّة، لا وجود له في لغة الحيوانات التي تستعمل فقط للتواصل والتنظيم والسيطرة والإنتاج، لكنها لا تستعمل لنقل الأفكار والمعاني والمشاعر.
فمن قصيدة محمود درويش تستطيع مع رسم الصورة الشاعرية التي بدأنا بها المقال، أنْ تعرف، أنَّ محمود وهو جالس في ذلك المقهى، يوصل لنا أفكاراً مجردة، مثل، أنَّ الحريَّة تتطلب قليلاً أو كثيراً من الوحدة، هو يدفعك للتفكير أنك لو جلست مع شخص أو عدة أشخاص، فإنَّ وجودهم سيفرض عليك نوعاً من تحديد أو توجيه مسار أفكارك، بحسب ما يقوله الأشخاص الجالسين معك، لكنَّ الوحدة هي التي تعطيك مساحة كبيرة من حرية توجيه أفكارك بحسب احتياجك، أو ربما تجعلك تفكر أنَّ الحرية ضريبتها هو الابتعاد عن الناس، وهذا الخيار الذي يبدو مريحاً لدرويش قد لا يكون مريحاً لك، فليس الكثير يحب الابتعاد عن الناس، وهي إذنْ –أعني الوحدة- تتطلب تنازلاً معيناً؛ لهذا الكثير من علماء اللغة يرون في المجاز أنه ليس فقط وسيلة من وسائل اللغة، بل هي جزءٌ أصيلٌ فيها.
اللغة البشريَّة هي اللغة الوحيدة التي تنقل درجات مختلفة من المشاعر، لذا هي علم وفن إنساني عظيم، لهذا تفرح النساء كثيراً بقصيدة يهديها إليها حبيبها، فالكلمات تتيح لها أنْ ترى في ما وراء الكلمات وما بين السطور، كل حسب ثقافتها وحسب خيالها.
ربما من الغريب الذي أراه في كل ما قيل سابقاً، أنَّ المرأة التي تعدُّ كائناً أكثر شاعريَّة ورومانسيَّة من الرجل، وأنَّ الرجل لإدراكه مدى شاعريَّة المرأة، يكتب لها القصائد، لأنها توصلُ اليها أكبر قدرٍ ممكنٍ من مشاعره، لكنَّ؛ السؤال: إذا كانت المرأة فعلاً أكثر شاعريَّة ورومانسيَّة من الرجل، لماذا يعجُّ الأدب ليس العربي فحسب بل والعالمي كله بقصائد الشعراء الرجال أكثر من النساء؟ وعدد الشعراء الرجال في كل عصر أكبر من عدد الشاعرات النساء؟ هل هذا يعني أنَّ الرجل أكثر رومانسيَّة من المرأة؟ كل التجارب البشرية والأديان تعرف وتعترف بأنَّ المرأة أكثر رومانسية من الرجل، ولا محل للجدال بهذا الشأن. إذن يبقى هناك احتمالان، الأول أنَّ الشعراء الرجال لديهم القدرة على استعمال اللغة أكثر من المرأة، وهذا برأيي احتمالٌ ضعيفٌ لأنَّ الاثنين بشر ويعيشان تحت الظروف الاجتماعية والتعليمية نفسها، أو، وهو الاحتمال الثاني، أنَّ الرجال الشعراء أكثر قدرة على الاختلاق؛ بيني وبينكم لا أحبذ أنْ أقول أكثر قدرة على الكذب.