ما هو التاريخ؟ ما هي التاريخيَّة؟ وما معنى التاريخانيَّة والتاريخانيَّة الجديدة وعلاقة المدلولات والمصطلحات الأخيرة بالنقد الثقافي وتجاوز التعارضات بين مفهومٍ وآخر وبين مصطلحٍ وآخر للوصول الى كليَّة المعرفة بدلاً من تنميطها؟
أسئلة كثيرة يطرحها الوعي الجدي الجديد بالعمل الثقافي, لا من منطلق تضييع الخصائص المعرفيَّة ومداليل المصطلحات واختلاف علمٍ عن علم, بل من أجل البحث بصوتٍ واضحٍ عن أوجه الحقيقة الإنسانيَّة في التاريخ والأدب كجزءٍ من مكملات الصورة الحضاريَّة للمجتمعات الجديدة.
تدرس التاريخانيَّة الجديدة النص لا بوصفه وثيقة تاريخيَّة سوسيولوجيَّة فقط، بل تدرسه على أنه تشكيلٌ جماليٌّ يتضمنُ بنية تاريخيَّة وثقافيَّة لا شعوريَّة يمكن اكتشافها وتحليلها علمياً بالاعتماد على التفكيك والتركيب, وهذا واحدٌ من الإفرازات النقديَّة لمرحلة ما بعد البنيويَّة.
يعتمد عالم كارل بوبر الفلسفي بداية على رفع الحصانة عن النظريات العلميَّة مهما كانت المبادئ والقواعد ورفع التنميط بحيث تكون نظريَّة العوالم الثلاثة هي الأساس في الفهم والاستنباط وهي:
• العالم الفيزيقي
• العالم الامبريقي: وهو عالم المشاعر والأحلام واللاوعي وما تتضمنه النفس وعلومها.
• العالم الثالث: وهو نتاج الفكر البشري
ويقترح بوبر تدمير العالمين الأول والثاني وإعادة تركيب الفكر الحضاري على أساس العالم الثالث الذي يقام بإزاحة العالمين السالفين.
كان بوبر (28 تموز 1902 - 17 أيلول 1984) يعمل من دون أجر في عيادة العالم النفساني الانثروبولوجي أدلر ليفيد من معرفته, في وقت عمل فيه كمساعد نجار بأجرٍ زهيدٍ ليلبي حاجياته الشخصيَّة أثناء دراسته وهو يبحرُ في فلسفة العلوم.
كان خروج أدلر عام 1911 عن معطف فرويد النفسي وتأسيسه نظريَّة علم النفس الفردي بديلاً عن نظرية اللبيدو الفرويديَّة سبباً في اتساع شقة الخلاف بين الرجلين والمدرستين السايكولوجيتين ودخول كارل بوبر الحميم في خدمة المدرسة الادلريَّة لفترة قبل أنْ يستقر عند تأسيس مدرسته الفكريَّة الخاصَّة.
يقول الدكتور إبراهيم عبد الرزاق في بحث له نشر تحت عنوان (المعرفة الأبستمولوجية عند كارل بوبر): إنَّ بوبر هو أول من أجرى مماثلة وتقارباً ما بين العلوم الطبيعيَّة والاجتماعيَّة, إذ يرى أنَّ مهمة العلم بالأساس البحث عن الحقيقة, وهو يقر بوضوح بالفرق بين سيكولوجية المعرفة ومنطق المعرفة, فالأولى تهتم بالوقائع الامربيقية أي المختبرية التجريبيَّة والثانية تعنى بالعلاقات المنطقيَّة, وبذلك تكون التاريخانيَّة الجديدة- كما يعرفها بوبر- هي البحث عن قوانين التغير الاجتماعي، إذ إنَّ جزءاً منها يعبر حدود النقد الثقافي بالربط بين ما هو سردي وما هو تاريخي توثيقي, وبذلك تعدُّ التاريخانيَّة الجديدة ظاهرة ثقافية ذات أبعاد سسيولوجيَّة تعتمد تداخل المنجزات الفكريَّة ضمن نظرية بوبر التي تعتمد العوالم الثلاثة في تسيدٍ واضحٍ للعالم الثالث كما أسلفنا.
ويبدو العالم الثالث أكثر حرية في الحركة بعد تعويم العالمين السالفين على مستوى دراسات النقد الثقافي والدراسات الانثروبولوجيَّة والفولوكلوريَّة والسرديات وغير ذلك من الدراسات.
ـ