أم كلثوم الصــوت الـذي لا ينســـى

منصة 2021/02/02
...

  صـــفاء ذيـــاب
 «مع أم كلثوم يلتقي التاريخان العام والخاص، يتضافران ويتواشجان، يعيدان بلقائهما سرد وقائعنا، الشخصية منها والعامة، يكتبانها على نحو جديد بعد أن يدور الزمان دورته، وتغرق في نهره أحلام وتفسيرات ودعاوى وأفكار، يظل الصوت وحده مئذنة من ذهب».
يعيد القاص والروائي لؤي حمزة عباس في كتابه (النوم إلى جوار الكتب) قراءة أم كلثوم بوصفها نسقاً ثقافياً في حياتنا اليومية، منذ بداياتها في عشرينيات القرن الماضي، وحتى لحظة تشكّل وعينا، ثقافياً واجتماعياً، فيضيف في مقالته أن «أكثر ما رسّخ أغنيات جيل العمالقة في حياتنا، وأغاني أم كلثوم في القلب منها، هو قدرتها على تدوين لحظاتنا، تثبيتها على نحو ما في الروح والذاكرة. تعيش الأغنيات، بذلك، ترجمتها الفردية في الوقت الذي تتلبس عواطفنا، لتصبح، وهي الأغنيات التي تعيش في الشعور العام، تضيء وتنبض، مفاتيح تواريخ شخصية وعلامات، لن تكون أغنية (الأطلال)، بهذا التصوّر، إلا أيقونة حبّي الأول، حب الصبا الأقرب إلى التولّه والقداسة والجنون، وقد أهدتني إحدى صديقات المعقل شريط الأغنية، فوجدت نفسي أعيش ألماً ثلاثي العوالم: أُرفع عالياً بدفق أنغام السنباطي التي أتصوّرها تنبثق من أعلى جبل، تلفُّ وتدور قبل أن تصل إليّ، تهب من حولي وتأخذني فأتنفّسها وأعيش دقائق أنغامها، وتسليم قصيدة ابراهيم ناجي بقدريتها الجارحة، وجبروت صوت أم كلثوم، تأخذني، أنا الصبي غضّ العود، وتلقي بي على ضفة إلى صلابة الصخر أقرب، إلى عتق لونه وهول ما يكتم من أسرار، تغيّبني موجة وتعيدني أخرى، ووجه فاتنتي، صاحبة الشريط، يتجلى مع كل موجة وكل نغم».
فبعد 46 عاماً من رحيل كوكب الشرق، والسيدة التي لم تأتِ سيدة أخرى لتحتل مكانها في قلوب العرب صوتاً ومكانة، ما زالت أم كلثوم تمثّل حالة فريدة في تاريخ الغناء العربي، فهي المولودة في أواخر القرن التاسع عشر، أو العام الأول من القرن العشرين حسب رأي آخر، بدأت الغناء وهي بعمر الخامسة، حين كانت ترافق والدها وأخاها خالد ليطوفوا على القرى المجاورة لقريتهم «السنبلاوين» حتى ذاع صيت هذه الفرقة الصغيرة، التي تتكون من أربعة أشخاص فقط، أضيف إليهم ابن عم أم كلثوم، لتشكل حدثاً جديداً مع مطلع القرن العشرين في الريف المصري.
غير أن الانتقالة المهمة في حياة أم كلثوم ليس انتقال الأسرة للقاهرة قبل عشرينيات القرن الماضي، بل تعرّفها على المعلّم الأول لها، وهو الموسيقار أبو العلا محمد، الذي وجد فيها امتداداً للأصوات العظيمة في تاريخ الغناء العربي منذ العصر العباسي وحتى العصر الحديث، فقدّم لها ألحاناً مختلفاً وقتها، وصولاً إلى تلحينه لأغني (الصب تفضحه عيونه)، وسمعها حينها أحمد رامي الذي كان عائداً من باريس بعد دراسته هناك، فأغرم بصوتها، وبها كامرأة، وهذا ما دفع رامي ليكون الكاتب المميز في تاريخ الغناء العربي عموماً، لاسيّما تاريخ أم كلثوم.
ويفرد الناقد المصري إسماعيل فايد نقاطاً في فهم المراحل المهمة في حياة أم كلثوم الغنائية، منهاً:
 
1 - سياق حميمي جداً للمؤدّي والجمهور، فحتّى في وجود شادر، كثيراً ما يقف الجمهور في شبه دائرة حول المؤديّة أو على مسافة لا تزيد عن متر أو مترين.
2 - تفاعل الجمهور آني وعفويّ وغير مرتبط بقواعد استماع معيّنة، بحيث تصبح ردّة الفعل ونتيجة الغناء متزامنتين مع ما تقوم به أو ما تقدّمه ويشكّل نوع الأداء، فيصبح الجمهور هو المؤلف الثاني، وتصبح التجربة الفنيّة تجربة شراكة بالأساس وليست تجربة مُلقي ومتلقّي.
3 - برغم وجود تواشيح أو مدائح معروفة لها بداية ونهاية، إلّا أنّه في الكثير من الأحيان يتم دمج تواشيح مع بعضها البعض حسب حالة المغنّي الأدائيّة وحالة الجمهور.
4 - موضوع الأداء في حد ذاته (مدح الأنبياء، الدعاء، استعطاف الخالق) يفرض على المؤدّي تجاوز البعد الشخصي: فالمغنَى عنه هو الله أو خاصته، ويدفع بالتجربة الاستماعيّة لحالة من الوجد بشكل يوازي موضوع الأغنيّة، للتحوّل التجربة الفنيّة برمّتها إلى حالة صوفيّة تتجاوز الواقع الدنيوي.
5 - الارتجال والإعادة: وهاتان صفتان تعرّفان الموسيقى والأداء العربي، الارتجال بالأساس منظور للتجربة الفنيّة يفترض أن يفتح المجال لمقدرة المؤدّي لاتّخاذ خيارات بشكل يتضمن بعض المخاطر والترقّب، والإعادة، كما يقول ثيودور أدورنو، تمثّل نوعاً من التنويم المغناطيسي، لإجبارها المستمع على تعقّب ما يتم طرحه على أمل اكتشاف اختلاف جديد، والاستزادة.
6 - زمنيّة الأداء: وهي من أهم معالم تلك التجربة. إذ كانت أم كلثوم تغنّي لمدة قد تصل إلى سبع أو ثماني ساعات متواصلة، معتمدة على التوافق العاطفي والإنساني مع المادة المغنّاة والجمهور.
الانتقالة الثانية التي مهّدت لتطوّر الأغنية العربية لقاء أم كلثوم بالشيخ زكريا أحمد أولاً، والموسيقار رياض السنباطي ثانياً، هذا اللقاء الذي غيّر مسيرة تلحين الأغنية العربية، فكانت تتراوح بين نمطين مختلفين من اللحن الشرقي، النمط الكلاسيكي الذي حافظ عليه الشيخ زكريا أحمد، والنمط الشرقي الجديد الذي قدّمه رياض السنباطي، وإذا كانت هناك فترات شد وجذب بين أم كلثوم وأحمد، وفترات ابتعاد وعودة، غير أن علاقة أم كلثوم بالسنباطي كانت الأقوى في تاريخها الغنائي، منذ العام 1936 بداية التعاون، وصولاً إلى الخمسينيات التي ابتعدت فيها أم كلثوم عن أغلب الملحنين، بسبب مشكلات مادية بالدرجة الأول؛ لاسيما مع زكريا أحمد، ذلك العقد الذي انفرد فيه السنباطي بتلحين أغاني أم كلثوم جميعاً، حتى العام 1960، وهو العام الذي تم الصلح فيه بينها وبين أحمد، ليختتم مسيرته الغنائية معها بأغنية «هو صحيح الهوى غلاب»، ليرحل عن عالمنا قبل أن يسمعها على المسرح.
من جهة أخرى، لا ننسى الموسيقار محمد القصبجي الذي كان من أهم المؤسسين لتراث أم كلثوم الغنائي، إذ بدأ معها في أواخر العشرينيات، ليحلّق معها في أغنية (مدام تحب بتنكر ليه) أولاً، وليقدّم معها أول أغنية طويلة في تاريخ أم كلثوم في مطلع أربعينيات القرن الماضي، وبقي معها بعد أن فشل فيلم (أوبرا عايدة) الذي لحّنه كاملاً، جماهيرياً، ليكون عازفاً للعود حتى رحيله في العام  1966، لتترك أم كلثوم كرسيّه فارغاً في الحفلات لسنوات طويلة وفاءً له.
هؤلاء الملحنون المؤسسون ابتكروا طريقاً سارت عليه أم كلثوم، لتقدّم معهم نهجاً جديداً في الغناء العربي، حتى دخل لهذه الحلقة الشاب المتفرد بأفكاره الموسيقية بليغ حمدي، لطرح شكلاً جديداً للأغنية الكلثومية، من خلال أغنية (حب أيه) وتبعها بـ(أنساك) لتتحوّل في ما بعد أم كلثوم من الغناء الشرقي الصارم، الذي لا يبتعد كثيراً عن غنائها في العشرينيات على أنغام التخت. الطريق الذي عبّده بليغ كان مفتاحاً لدخول موسيقار الأجيال محمد عبد الوهاب في العام 1964، بعد طلب صريح من الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، ليشتركا بعمل موسيقي. هذا العمل الذي تأخر ما يقارب عشر سنوات بعد أن اتفقا معاً في العام 1954 على تمثيل فيلم ألمظ وعبده الحامولي، غير أن إصرار عبد الوهاب على تلحين أغاني الفيلم كلها جعل أم كلثوم ترفض تماماً، مصرة على أن تكون أغانيها من ألحان زكريا أحمد ومحمد القصبجي ورياض السنباطي.
نحا عبد الوهاب بأم كلثوم لتكون بشكل جديد تماماً عمّا سبق، فأدخل الآلات الموسيقية الكهربائية، وهو الذي كانت ترفضه أم كلثوم، وجعل المقدمة الموسيقية تشكّل مساحة زمنية كبيرة، ما أدخل الرعب في نفس أم كلثوم، لأنها لم تعتقد أن هناك مقدمة تتجاوز العشر دقائق، وهي تنتظر دورها، غير أن إصرار عبد الوهاب ومحاولاته أقنعا أم كلثوم بقبول اللحن الأول لعبد الوهاب (أنت عمري) لتتوالى بعدها الألحان، ودخول ملحنين شباب لحياة أم كلثوم الغنائية، مثل محمد الموجي وسيد مكاوي، الذي غّنت له آخر لحن له أدّته على المسرح (يا مسهرني)، لكن الأغنية الأخيرة التي كانت في حياة أم كلثوم كانت، وقامت بتسجيلها من دون أن تتمكن من أدائها على المسرح، هي أغنية (حكم علينا الهوى) من ألحان بليغ حمدي. الجميل أن العلاقة العاطفية التي جمعت بين أم كلثوم وأحمد رامي على الرغم من عدم إعلانها وارتباطهما، بدأت مع أول أغنية رسمية غنّتها أم كلثوم (الصب تفضحه عيونه)، وآخر أغنية لها على المسرح (يا مسهرني).
حتى بعد مرور 46 عاماً على رحيل أم كلثوم، غير أنها ما زالت تتربع على عرش الغناء العربي، مؤسسة لمدرسة خاصة تخرّج منها آلاف المطربين، الذين يشكلون عماد الغناء العربي.