د.عدنان صبيح*
التعاون هو بوابة لازدهار الدولة، هذا ما اورده كاريث جونز في كتابه "عقلية الخلية"، مبينا أن الدول التي تتمتع بمستوى عالٍ من التعاون، هي الدول الاكثر تقدما وازدهارا حضاريا، وطبقت هذه الدراسة على عدد من الدول، حيث كانت كل من سنغافورة وفنلندا على سبيل المثال تحتل مكانة عالية في اختبارات التعاون، ويبين جونز ان ذلك قد انعكس بشكل او بآخر على الخدمات العامة، فالدول التي يقل فيها مستوى التعاون، تتهاوى فيها الجسور والطرق وحتى الخدمات المرورية، وبما ان مستوى التعاون قليل فان الرشوى والفساد يزدادان في تلك المجتمعات.
معادلة صعبة يوردها جونز، وكل من يقرأها يحاول ايجاد مصاديق واقعية تمثلها على مستوى الدول، الدراسة تبين العمل على المستوى الاجتماعي فوق الفردي، ومن ثمّ فإنّ مستويات التعاون المتقدمة الهدف منها الجانب الاجتماعي، الا أنه في الحقيقة إن المجتمعات التي تم النظر اليها على أنها تمثل مستوى عاليا من التعاون، التي كان ذلك سببا في ازدهارها، هي دول لم تكن مجتمعات اشتراكية، فالفردانية فيها عالية، بل ان مستوى وجود وذكاء الفرد فيها
عالٍ.
هناك دراسات أخرى تبين أن الإنسان القديم أو القريب زمنيا من الأنسان الأول (Homo Sapiens) هو أكثر تعاوناً، بل هو اكثر ذكاءً من الإنسان الحالي، بسبب الروح التعاونية التي تميزه عن
الحيوان.
في هذا الموضوع ربما يتم الرد بان هناك حيوانات تتمتع بمستوى عالٍ من التعاون، والحقيقة نعم، الا أنها لم تملك القدرة على التعاون الممتدة التي يتمتع بها الانسان، فهو قادر على التعاون على مستويات عدة منها الدول والمجتمعات والمناطق والجماعات والأسر والعمل والافراد، وممكن أن يتوسع اكثر، وبذلك فإن اكثر الحيوانات تطوراً في التعاون لم تستطع ان تكون بهذا الامتداد، فقد يكون تعاونها على أساس الجماعة نفسها، او على عدد محدود من الأعداد.
هذا ما يجعل الانسان اكثر قوة من باقي الحيوانات، بل يجعله ذكيا للمستوى العالي من التعاون الذي يتمتع به، ولذلك فإن الحديث عن أن الانسان الاول أكثر ذكاء من الانسان الحالي بسبب قدرته على التعاون اكبر، وتلك القدرة مكنته من التغلب على المصاعب الكبيرة، وأن يتكاثر ويعيش ويبقى رغم صعوبة العيش وأخطارها.
تلك الآراء تبين ان هناك علاقة بين التقدم الزمني نحو الحداثة والتدرج في فقدان التعاون بين بني البشر، الذي لو حافظ عليه البشر لكانت اغلب المجتمعات تعيش ازدهاراً، ولم يكن مقتصراً على دول معينة، وتلك العملية دعت المجتمعات الإنسانية المختلفة إلى إيجاد بدائل لفقدان التعاون، او إيجاد مقومات إعادة التعاون الى مجتمعاتها.
ومن تلك البدائل هي القانون والدين، فضلا عن التنظيم الذي ينتج عن طريق التقاليد والعادات والسلوك، والدول الأكثر تقدما هي الأكثر قدرة على تطبيق قوانينها الوضعية والعرفية، والدول الأكثر ازدهارا الآن هي بالحقيقة استغرقت وقتا طويلا في تعزيز القانون وإقناع مواطنيها، بأنه الوسيلة الأمثل للرجوع إلى ما تم فقدانه، والذي كان سببا في أن يكون الإنسان قويا ويتفوق على باقي الحيوانات.
فضلا عن العمل على تعزيز الجوانب الأخلاقية التي توفر التعاون بين المواطنين المتمثلة بالمؤسسات الدينية والقانونية، بل أنتجت منظمات دولية كبرى، خصصت لها أموالا طائلة من اجل إعادة روح التعاون لبني البشر، فهي فعلا مصداق لمقولة (صناعة الانسان) قبل الأوطان.
وبإمكاننا الرجوع الى بطاقات تعريف المنظمات الدولية مثل اليونسكو، والتي تعرّف مجالها هو (أن تُرسى أسسه على التضامن الفكري والمعنوي بين بني البشر) وحتى المنظمات التي أرسيت لمجتمعات معينة) مثل منظمة العمل الاسلامي، فإن أحد أهدافها هو (المساواة بين بني البشر بغض النظر عن الدين واللغة والعرق او الأصل) مما كان ذلك الاهتمام بوابة لعدد من من الدول في أن تحقق ازدهارا، ومن أغفلها، ابتلي بالفساد والرشوة وعدم السلام، وما تبع ذلك من نقص في الخدمات العامة التي ارهقتها عمليات الفساد، والأدهى من ذلك فإنها تمتد الى أجيال أخرى وتتوسع، لتصنع أجيالا غير متعاونة، لم تفلح كل تقاليدنا وما تحتوي من قواعد ثقافية ودينية، فضلا عن اساس تاريخي مميز في الجوانب القانونية، على أن تنتج مجتمعا متعاونا، بل ان كل الصور التعاونية التي ترافق العلاقات الاجتماعية مثل التعاون للمساعدة ومواجهة خطر معين، هي بقايا تقاليد، ولم تكن تقاليد كاملة، اي إنها لم ترتق الى ان تكون ثقافة، والدليل على ذلك فإن من يدعي استعداده للمساعدة لقريب ما، هو يطلب الرشوة من شخص اخر لقاء عمل مماثل، ولا يعد كل ابناء مجتمعه قريبين، وجزءا من واجبه مساعدتهم، فهو يشبه بذلك بعض الحيوانات (التي تتعاون في نطاق ضيق)، والتي تخالف الطبيعة الانسانية القائمة على التعاون الممتد من دون حواجز قرابية او
فئوية.
وما دمنا فشلنا في اقناع مجتمعنا بأن روح القوانين هي لتعزيز الروابط والتعاون، وان الاعراف والتقاليد المجتمعية تعمل على تنميط بني البشر على أوجه الروابط الخاصة كل حسب مجتمعه، لماذا لا نجرب كمؤسسات حكومية وغير حكومية، على أن نفرز في المجتمع المتعاونين وغير المتعاونين، على أمل أن تميل كفة المتعاون وتتحول الى ثقافة بدل بقايا تقاليد نحتاجها فقط عندما نريد ان نقصّ لاولادنا مآثرنا. ولنتفق جميعا ان غير المتعاونين ليسو أسوياء، حتى وأن احدث ذلك صدمة في البدء، الا انها تنقذ نصفنا من ان نكون مجتمعاً غير سوي. وهذا الامر منوطاً بالأطراف المجتمعية حتى نلحق مما تبقى من ذكائنا.
*باحث انثروبولوجي