تعد إيميلي ديكنسون المولودة عام 1830 من أبرز المؤثرين في مسيرة الشعر الأميركي المعاصر، لكنها لم تلق الاهتمام الذي تستحق أثناء حياتها، بسبب ميلها للعزلة وعدم نشرها أكثر من أحد عشر نصا. وبعد اكتشاف أعمالها التي زادت على الالف وسبعمئة قصيدة تم ابراز قيمتها الشعرية الحقيقية.
ويتفق العديد من النقاد بأن ديكنسون ووالت وايتمان يعدان من أهم الشعراء الأميركيين في القرن التاسع عشر. وقد صنفها الناقد الأدبي وأستاذ علم الإنسانيات بجامعة يال هارولد بلوم ضمن أهم 26 كاتباً وكاتبةً غربيين عبر التاريخ.
ثيمة قصيدة (أقيم في الإمكان) الاساسية لديكنسون هي قوة الشعر وطاقته اللانهائية، مقارنة بمحدودية النثر. وتركز أبيات القصيدة المكثفة على ثراء الشعر دلاليا وانفتاحه على امكانات التأويل، انه الفرح وتماسك الكينونة، التي تشع وتحول الاشياء المستحيلة الى عوالم متاحة.
تنشئ الشاعرة بيتها الشعري المجازي الذي تطلق عليه بيت الامكان مقارنة اياه ببيت أقل منزلة تسميه بيت النثر، وتتحدث في القصيدة عن المواصفات التي تجعل من بيت الإمكانمدهشاً، مشيرة إلى أن هذا البيت يفتح لها طريقاً للفردوس نفسه. إنها اسهامة مميزة تعكس قوة الخيال الشعري والابتكارات الفنية التي كرست ديكنسون حياتها لإنجازها:
أقيم في الإمكان-
في منزل أجمل من النثر –
بنوافذ كثيرة وأبواب منيعة –
وحجرات شاهقة مثل الأرز
عصي على البصر
وسقفه يمتد للسماء
بيت الشاعرة يحتوي على نوافذ متعددة كناية عن تعدد الرؤى والانطباعات والثراء الروحي والمعرفي. للبيت أبواب محصنة تمثل الجانب المنيع من الشاعرة الذي لايسمح الا للمميزين بالدخول طبقا لمواصفات روحية خاصة جدا.
الحجرات هي غرف هذا البيت الجميل خصوصاً غرف النوم.
الغرف واسعة وعالية مثل أشجار الأرز، وبالرغم من كونها واسعة وعالية، لكنها في الوقت ذاته مقيدة الرؤية وسقف البيت يستمر للأبد بعكس السقوف الواقعية طالما هي تنفتح على لانهائية السماء.. تختار الشاعرة القراء الأجمل، الأكثر رهافة، المميزين، الأذكياء والمحبوبين للإقامة في بيت الإمكان، وهو نتاج خيال الشاعرة ورقي مستوياتها الفكرية والتعبيرية:
زواري هم الأجمل
ووظيفتي
هي أن أفرد يدي الصغيرتين
لأجمع الفردوس
وبما أنه لايمكن الدخول لعقل الكاتب، فان أفضل مايمكننا القيام به هو محاولة أن نفهم لماذا يلجأ إلى هذا الأسلوب أو غيره أثناء الكتابة. أن جهودنا لمحاولة الفهم تكمن في افتراض أن الكاتب نفسه يمتلك درجة من الوضوح بشأن ابداعه.
وبشكل عام فان الكتاب والشعراء تحديدا هم سلالة لاتخلو من الغرائبية، وهم حساسون جدا في تعاملهم مع بناء الجملة، الكلمات، أصوات الكلمات، وكيف يبدو شكل الكلمات بصريا. وربما يفكرون بخصوص مايكتبون وربما لا أحيانا، مستسلمين لطاقة غامضة تلهمهم.
ديكنسون في هذه القصيدة تسكن في الإمكان، هي لاتفكر، لاتحلم، لاتتأمل أو تتمنى، أو تشتاق، بدلا من ذلك هي تقيم في الإمكان، كلمة تقيم تتضمن بشكل طفيف دلالة سلبية، وتستخدم الشاعرة في القصيدة مفردات متضادة دلاليا..
ومعروف بأن ديكنسون كانت تعيش حياة منعزلة لذلك فإن اقامتها هناك (أي في عالم الإمكان الشعري) هي اشارة سريعة إلى احساسها بالسخط ازاء العالم،إذ أن احساسها بالاحباط من الواقع هو ما يجبرها على الإقامة في العالم الأفضل، مختارة منزلا أكثر جمالا من النثر، البيت الأجمل هنا هو بيت مجرد، محبوب أكثر لم يكتب عنه من قبل، بيت أجمل مما يمكن للمرء أن يتخيل أو يكتب عنه أو يصفه. النثر هنا في القصيدة يمثل شكلاً كتابياً رتيباً، بينما القصيدة (منزل الحلم) تمثل عالماً أجمل وأكثر رحابة.. وفي هذا العالم تتعدد الرؤى والتأملات والرؤى الخلاقة.