نصائح الراهبات من القرون الوسطى بشأن كيفيَّة التعامل مع العزلة الذاتيَّة

ثقافة 2021/02/08
...

جوديليند جيرتود بيرك
ترجمة: جمال جمعة
غالبا ما توصف جائحة الفيروس التاجي بأنها "غير مسبوقة"،وبالنسبة للعديد من الأشخاص المحبوسين في بيوتهم في مختلف البلدان، فإن هذه التجربة لا مثيل لها وتشكل تحديا على حد سواء. لكن في القرون الوسطى المتأخرة في أوروبا، قام أشخاص بعزل أنفسهم ذاتيا بشكل محترف. بعض الناس (النساء على وجه الخصوص) انسحبوا انسحابا دائميا من المجتمع، ليعشوا محاطين بالجدران في حجرة ملحقة بالكنيسة.
الإرشادات والنصوص التي كتبتها هاته "الناسكات" (كما كانت تعرف النساء) في بريطانيا وأوروبا القارية تقدم لنا تفاصيلا عن طريقة عيشهن وسرد أفكارهن. ترى ما الذي يمكن أن تعلمنا إياه نسوة القرون الوسطى هؤلاء عن كيفية التعامل مع العزلة الذاتية؟
اختارت هؤلاء الناسكات أن يكن محبوسات في هذه الصوامع الضيقة لأسباب عديدة. فوفقا للثقافة الدينية في القرون الوسطى، فإن حياة الصلاة بالنيابة عن الآخرين تدعم المجتمع بشكل حيوي. مكنت العزلة النساء من التعبير عن محبتهن للمسيح وخدمة إخوانهن المؤمنين من خلال صلواتهن ومشورتهن. تم حتى تصوير الناسكات على أنهن يمتلكن "قوى خارقة" لشفاعة الموتى في المطهر.
علاوة على ذلك، ففي أواخر القرون الوسطى، ازدهرت العبادة بين العوام (الناس الذين ليسوا من طبقة الأكليروس). الحياة كناسكة أتاحت لنسوة العامة خيارًا للتعبير عن هذه التقوى، لكنها قدمت لهن المزيد من الحرية للتأمل الذاتي (والعزلة) أكثر من حياة راهبة.
تلمّح التحذيرات في إرشادات الناسكات كذلك إلى وجود دوافع روحية أقلّ. من المفارقة أن الحياة في المعتزل تضع الناسكات في قلب مجتمعاتهن ويمكن أن تحولهن إلى أساطين دينية. صوامعهن غالبًا ما كانت تواجه طرقا مزدحمة في المدن الصاخبة وتتحول كذلك إلى بنك، ومقصورة معلم، ومخزن للنميمة المحلية.
 
لا تتوقع الراحة
كتاب "تنوير الناسكات" AncreneWisse، وهو دليل إنجليزي من القرون الوسطى للمتنسكات، من القرن الثالث عشر، يحذر المنعزلات من البحث عن الراحة. بدلا من ذلك، يجب أن تذكّر الناسكة نفسها بأنها ليست محبوسة من أجل مصلحتها الخاصة فقط، وإنما من أجل مصلحة الآخرين أيضا.
لقد قيل لها أن "تجمعي في قلبك كل أولئك المرضى أو التعساء" وأن "تشعري بالرأفة". فالناسكة، من خلال عزل نفسها "تدعم [جميع أقرانها المؤمنين]" بصلواتها. وفي وقتنا الحاضر، يطالب الممرضون والأطباء بشكل ملحّ بالتزام مماثل من قبل الجمهور، عندما يتضرعون "ابقوا في البيت من أجلنا".
نصيحة كتاب "التنوير" لها نكهة تبدو مناسبة بالقدر نفسه هذا اليوم. قد يكون من الأسهل تحمل العزلة الذاتية إذا كنت تدرك أنها تجربة غير سارة ومرهقة، بدلا من رؤيتها باعتبارها فترة مملة لكنها مريحة. لكن تخيل أيضًا جميع الأشخاص الذين ستحمي صحتهم من خلال بقائك في المنزل.
 
الاعتراف بالضعف
أولى الكاتبات الإنجليزيات المعروفات، جوليان النورتشيّة (نحو 1343 - 1416)، وهي إحدى الناسكات، شجعت القراء بالمثل على الاعتراف بنقاط ضعفهم الشخصية، لكنها اقترحت النظر إليها على أنها نقاط قوة. وتؤكد للقراء في نصها (رؤيا الحب)، الذي يعود إلى أواخر القرن الرابع عشر أو أوائل القرن الخامس عشر، أن المعاناة والمشقات لن تهزمهم:
لم يقل السيد المسيح: "لا تكن قلقا، لا تكن مهموما، لا تكن محزوناً"، بل قال: "لا تكن مهزوما".
تبشّر جوليان القرّاء بأنهم سيتجشمون اضطرابًا عاطفيًا خلال أية أزمة لكنهم سيقهرونها في النهاية. هذه البشرى تطابق ما ذهب إليه "علم نفس البقاء" الحديث. عند التكيف مع الحياة خلال إحدى الأزمات، فإن الإقرار بالظروف الصعبة على أنها تشكل حياة المرء الحقيقية آنذاك أمر جوهري. ومع ذلك، يجب على المرء أن يتذكر في الوقت نفسه أن المرء يبذل قصارى جهده للعودة إلى نمط الحياة الأفضل، الذي كان عليه قبل الأزمة. فقط من خلال الاعتراف بضعفنا (الجسدي والنفسي على حد سواء)، وبالتالي اتخاذ إجراءات لحماية ورعاية الآخرين وأنفسنا، سننجح في ذلك.
 
حراسة الحواس
وفقا لكتيّبات الناسكات، يتوجب عليهن حماية نوافذهن المجازية (حواسهن الخمس) ونوافذ الصوامع الحقيقية، لمنع الوقوع في الإغواء والذهول عن صلواتهن وتأملاتهن. يصرح كتاب "التنوير" بما يلي: "الاضطراب يدخل القلب فقط من خلال شيء ... إما مرئيّ أو مسموع، أو مُذاق أو مشموم، أو محسوس خارجي".
يمكن للعالم الخارجي أن يربك عالم المرء الداخلي. الناسكة الهولندية الأخت بيرتكن (1427-1514) تحكي عن هذه البلبلة في إحدى القصائد:
العالم أوقعني تحت سلطته
بأفخاخه المتعددة
سلبني قوتي.
ومع ذلك، فهذا التوتر بشأن تأثير المدخلات الحسية يمكن أيضا فهمه على أنه النظير القروَسطي للتحذير من الأخبار المزيفة أو القلق من الاستهلاك المفرط للأخبار. توصي العديد من الإرشادات بضرورة وجود صديقة تحرس بأمانة نافذة الناسكة، وترفض السماح بدخول الزوار الذين يبثون النمائم والأكاذيب. وسائل التواصل الاجتماعي في الوقت الحاضر يمكن أن تشابه هؤلاء الزوار قليلا.
 
حافظ على انشغالك، 
حافظ على ادراكك
تفكر النسك وكاتبو إرشادات النسك كذلك في كيفية الحفاظ على حصافتهن. فالبقاء منشغلا يمنع المرء من تسلق الجدران. الراهب السيسترسيّ الإنجليزي أولريد(1110 - 1167) ، رئيس دير ريفولس، يخبر أخته، وهي ناسكة، في رسالته (قاعدة الحياة للناسكين) أن: "الخمول ... يولد النفور من الهدوء والاشمئزاز من الصومعة".
الروتين هو الحلّ. يتلو النسّاك سلاسل من الصلوات والمزامير وقراءات أخرى من الكتاب المقدس في أوقات محددة من اليوم. ووفقا لعلم نفس البقاء الحديث، فإن تقسيم المشكلة أو بسط الوقت إلى خطوات يمكن السيطرة عليها هو أمر بالغ الأهمية عند مواجهة أزمة. وعلى نفس القدر من الأهمية إنجاز كل خطوة واحدة تلو الأخرى، وعدم النظر إلى ما هو أبعد من الخطوة 
التالية.
الهوايات التي تستغرق الذهن، مثل الحرف اليدوية، والبستنة، أو القراءة هي ستراتيجيات عريقة أخرى للتعامل مع العزلة الذاتية. بعد أن يوصي بخياطة الملابس للفقراء والأردية الكهنوتية للكنيسة، يؤكد كتاب "التنوير" أن بقاء الناسكات منشغلات سيقي أذهانهن من الإغواء:
فحينما يراهن [الشيطان] منشغلات، سيفكّر هكذا: "لا فائدة من الاقتراب منهن الآن؛ لن يمكنهن التركيز على الاستماع إلى نصيحتي".
هذه المقترحات يمكن ترجمتها بسهولة إلى وقتنا الحاضر. بعد كل شيء، ووفقا لعلم نفس البقاء، فإن أداء الأعمال الموجَّهة، التي يمكن التحكم بها لهدف ما أمر بالغ الأهمية في الأزمات. وبالمناسبة، فإن كتاب "التنوير" يوصي أيضا بالاحتفاظ بقطة.
من ناحية أخرى، يمكن أن تشعر العزلة الذاتية بالأَسر، فقد شعرت جوليان النورتشيّة أيضًا أن: "هذا المكان سجن"، كما تقول، مشيرة إما إلى الحياة الأرضية أو إلى صومعتها. لكن المساحة الضيقة للصومعة منحت نساء العصور الوسطى أيضاً حرية روحية متناقضة. في "رسالة إلى الناسكة إيفا الويلتونية"، يهتف جوسلين الراهب في دير سانت بيرتين، من القرن الحادي عشر: "صومعتي ضيقة جدا"، يمكنك القول، لكن ما أوسع السماء!
 
The Conversation 
(جوديليند جيرتود بيرك: باحثة ما بعد الدكتوراه في أدب القرون الوسطى، جامعة أكسفورد)