بحاجة ماسة إلى الخرافة

ثقافة 2019/02/03
...

ياسين النصير
 

تحيط الخرافة بنا من كلّ جوانب الحياة، فهي جزءٌ من الثقافة، وجزءٌ مهم من طرائق العيش اليومية، ومرافقة حميمية للسكن، وملصق دائم لتوجهات السفر والعمل والشجاعة والحب والدراسة والنجاح والزواج، فلا يوجد مفصل، مهما كان صغيرًا في حياتنا اليومية، يخلو من حاجته للخرافة. حتى أصبحت إحدى طرق التفكير السائد لدى العامة التي تعوض بها عن الطبيب والتعلّم، خاصة إذا اقترنت بالحظ والوجاهة والفساد. فهل يعقل أن شعبًا تحيط به الخرافة في أوجهها الثقافية والمادية والاجتماعية والحياتية ولا نجد لها صدى في الإنتاج الثقافي المعرفي، خاصة الرواية والشعر والقصة والمسرح وفنون التشكيل؟.
لايمكن الاستغناء عن الخرافة في مجمل حياتنا اليومية، فهي تعيش في اللقمة التي نأكلها، وفي الملبس الذي نرتديه، وفي السفر والتجوال اليومي في الأسواق، وفي الحب، وفي الزواج، وفي الحياة، وفي الموت، وفي الدراسة وطلب العلم.. وفي كل مفصل لها موقع وبيت تستظل به، وتمد أسبابها في حياتنا اليومية، فنحن شعب مزدوج الفكر والثقافة، لا يمكنك القول إنني أفكر فأنا موجود، دون أن تكون أكثرية الأفكار مادة خرافية، إن رجل العلم الذي ننشده كأنموذج لبناء بلادنا لا يمكنه أن يتحرر من ثقافة الخرافة.
فعلينا نحن التنويريين أن نطعم الخرافة بما يمكن أن يكون بديلا لها، لا شيء يتغير نحو الأفضل إلّا من خلال جنسه الأكثر تقدما، علينا أن نبتدع خرافات ولكن بطريقة علمية. وهو ما تقوم عليه الألعاب، واشكال التفاهم الإتصالية، فالكومبيوتر مثلا خرافة علمية، لكنه متحقق لكونه امتلك ما يغير فيها الخرافة الساذجة عن فهم العالم، فالأنموذج الذي يراد منه النقلة الحداثوية للمستقبل يجب أن تصاحبه الخرافة حتى لو لم يعتمدها، والأمور لاتسير على قدم واحدة في مجتمع يجنّد للخرافة كل طاقاته الروحية والمادية ويرسّخها في المدرسة والثقافة والسياسة والتعليم والعلاقات الخارجية وحتى نظم المواصلات الحديثة.
 عندما نقرأ عيون الأدب في الرواية والشعر والمسرح، نجد الخرافة جزءًا بنيائيا فيها، وتكاد الف ليلة وليلة أن تكون القاسم المشترك بين التفكير الخرافي الشعبي بالمصائر الإنسانية والتفكير العلمي عندما تصنع لنا مخيلة تنشط الذاكرة وتفتح طرائق تأويل، ولن تخلو رواية متميزة من استثمار الخرافة، ليس كملصق خارجي، بل كبنية داخلية، ولنا في مئة عام من العزلة، والحرافيش، والسيد الرئيس، ومئات الروايات والقصائد، أمثلة على حضور الخرافة بألوانها في بنية الفكر الحداثي.
لقد أقام التفكير النهضوي في القرن التاسع عشر بمجمله على المزاوجة بين مفيستوفلس وفاوست، الشيطان ورجل التنوير، فلماذا ينأى أدبنا الروائي عن هذه الثيمة التي تفتح مخيلته على بقاع معرفية هائلة مغطاة بالجهل واللامبالاة؟، ثمّة نداء روحي يستدعي العلم، هذا مايفعله رجل الحداثة وهو يتطلع لبناء بلده، أما أن يكون النداء كله علميًا، ويتجاوز تفكير ثلاثة أرباع الشعب فلا أعتقد سيجد له صدى في ثقافتنا، ناهيك عن أنه لا يحقق شيئًا للمستقبل، في حين أن التفكير القاعدي الذي يستند على حيثيات الواقع المادي للأشياء، نجد انه الأكثر نجاعة باستناده على أرضية شعبية غائرة في وجدان وممارسة المجموعات. وعندما يضيق الأمر بنا عن الإجابة عن الحاجات الاجتماعية الضرورية، نجد الأدب يتحرك باتجاه العلم ويتحرر من قوالبه القولية القديمة.. وبدون ذلك لن تكون لنا رواية حديثة.