«الخطيبان».. قصَّة الحب التي وحدت الإيطاليين خلال الوباء

منصة 2021/02/13
...

  أليسيو بيرون
  ترجمة: جمال جمعة
في منزله في بولونيا، انتظر أليساندرو أرمارولي انقضاء جائحة الفيروس التاجي أثناء بحثه عن جوانب إيجابية. قال: «ربما، وعلى أمل، أن يجلب ذلك شيئاً جيداً». أرمارولي محام، ولكن منذ أن وضعت إيطاليا برمتها تحت الإغلاق في 10 آذار، لم يمضِ أي وقت تقريبًا في مكتبه أو في المحكمة، إنه يعمل من المنزل، يقرأ، ويطلع على المعلومات، ويدرس المحاكمات.
«فكرت في مكنسة دون أبونديو»، قال مستشهداً بإحدى الشخصيات في رواية أليساندرو مانزوني، (الخطيبان)، وهو قسّ اكتشف أن مضطهده قد مات بالطاعون، فقال: «لقد كان هذا الطاعون كارثة كبيرة، لكنه كان أيضاً بمثابة مكنسة، خلصتنا من بعض الشخصيات التي [...] لم نتمكن من التخلص منها».
الكثير من الصدمات
هذه أوقات ناشزة في إيطاليا. منذ بداية الإغلاق، كانت المدن هادئة للغاية لدرجة أنه يمكنك سماع همهمة الطيور أو صرير الدراجات الهوائية، هدوء لا يقطعه سوى تصفيق السكان أو غنائهم على الشرفات لرفع معنوياتهم. لكن الحرب الصادمة على المرض محتدمة في المستشفيات. المرضى في حالة فظيعة حتى أنَّ الأطباء أنفسهم يقولون بإنهم يأملون شخصياً ألاّ يموتوا. الطاقم الطبي يتدافع لتوفير المزيد من أسرّة وحدة العناية المركّزة كل يوم، ولكن بغض النظر عن جهودهم، فإنَّ عدد المرضى المصابين الذين يدخلون المستشفى كل يوم يعني أنَّ «هناك دائمًا العدد نفسه من الأسرّة المتاحة» في نهاية اليوم، كما أخبرني أحد الأطباء بقنوط. في بعض بلدات لومباردي، الإقليم الذي تقع فيها ميلانو وحيث أنا أعيش وأعمل، فقد الكثير من الناس حياتهم لدرجة أنَّ صالات الجنائز يقال إنها على وشك الانهيار وقرر الكهنة جعل الأجراس تدق مرة واحدة فقط في اليوم لوقاية المجتمعات من الكثير من الصدمات.
الصدمات منتشرة في كل مكان في إيطاليا، ومع ذلك لا يزال الإيطاليون يتلفتون إلى صدمات الماضي، وعلى وجه الخصوص، إلى (الخطيبان). تفيض وسائل التواصل الاجتماعي بالإشارات والاقتباسات من الرواية، سواء كانت حقيقيَّة أو مزيفة. كما يقرأ المرء في العناوين الرئيسة: «الخطيبان تصف مجتمعنا». ونقرأ في عنوان آخر: «ليس من قبيل المصادفة أنَّ (الخطيبان) أحد أكثر الكتب اقتباسًا في هذه الأيام». كل الدلائل تشير إلى أنه في أوقات الأزمات، يتجه الناس إلى القصص كبوصلة لتفسير حاضرهم الصعب.
 
حس أخلاقي كاثوليكي
على مدى أيام، بينما كنت أقوم بتغطيات لوسائل إعلام مختلفة عن وباء الفيروس التاجي أثناء انتشاره في جميع أنحاء إيطاليا، أصبحت مهووسًا بمعرفة السبب الوحيد الذي دفع الكثير من الناس بالتوجه إلى (الخطيبان). هل كان الحس الأخلاقي الكاثوليكي الذي يتخللها، أم العبرة لأن يكون قلبك في المكان المناسب والثقة بمشيئة الله عند الطالع السيئ؟ التعلّم من الجائحة القديمة؟ الانتقام الأخلاقي ممن نعتقد أنهم أوغاد، ونبيّن كيف أنهم هُزموا في الرواية؟
خلال الأسبوع الماضي، لم أتمكن من مقابلة أي شخص بسبب الإغلاق، فاتصلت بإيطاليين كانوا، مثل أرمارولي، يقتبسون أو يعاودون النظر في الكتاب. كلما ذكرت أنني كنت أتصل من ميلانو، تكون هناك دائمًا لحظة صمت متردد، كما لو كنت أعترف بخطورة تفشي الفيروس التاجي.
من المنطقي أنْ يعود الناس إلى ما يعرفونه عن كثب في الأوقات الصعبة، و(الخطيبان) عملٌ متأصّل بعمق في الثقافة الشعبية الإيطالية، وحيث من الصعب المغالاة في دوره؛ فقد يكون في المرتبة الثانية بعد الكوميديا الإلهية لدانتي. هذه الرواية التاريخية دراستها إلزامية في المدارس في جميع أنحاء إيطاليا، حيث يقوم الطلاب بتحليلها طوال عام دراسي كامل. إن مكانة مانزوني تصل حد أن العديد من المدارس (بما في ذلك المدرسة التي التحقتُ بها) سمّيت باسمه في إيطاليا، بينما أصبحت شخصياته، مثل دون أبونديو، شخصيات رائجة جدًا في الثقافة الشعبية حتى أن البابا كان يستشهد بها بين الفينة والفينة في خطاباته.
كان للكتاب أهمية تاريخية أيضًا. أخبرتني ماريا غابرييلا ريكوبونو، أستاذة الأدب المقارن في جامعة ميلانو، أنها أول رواية مهمة كتبت لجمهور أوسع باللغة الإيطالية، مقارنة مع روايات سابقة كانت إما ذات قيمة قليلة أو مكتوبة للنخبة فقط. قالت ماريا غابرييلا ريكوبونو، أستاذة الأدب المقارن في جامعة ميلانو: «كانت (الخطيبان) أول عمل له أهمية تاريخية هائلة مكتوب لجمهور أوسع [في إيطاليا]». وأضافت: «ولفعل ذلك، استخدم شخصيات من الطبقة السفلى ولغة متاحة، ربما ليس للكثيرين، لكن لمعظم المتعلمين»، مضيفة أن معظم الإيطاليين كانوا غير قادرين على القراءة عندما نُشرت الرواية لأول مرة في عام 1827.
بسبب اضطرارها إلى العمل من المنزل بسبب الإغلاق، أدرجت ريكوبونو الرواية في مقررها لهذا العام وكانت تحمّل المواد لطلابها عندما تحدثنا (قامت بتحميلها إلى مدونة شخصية بعد تعطل النظام الأساسي لجامعتها بشكل متكرر بسبب الإفراط في الاستخدام).
 
حب مع تحديات رهيبة
حبكة رواية (الخطيبان) بعيدة كل البعد عن قصص هوليوود. رينزو ولوسيا (الخطيبان الفخرّيان) يريدان الزواج، لكن مالك الضيعة المحلّي دون رودريجو، الذي يريد لوسيا، يهدّد الأسقف الجبان، دون أبونديو، لكي لا يقيم مراسم عقد القران بين الخطيبين. يُجبر الاثنان على الفرار، ويخضع حبهما الذي لا يتزعزع لامتحان خلال سلسلة طويلة من التحديات الرهيبة، إلى أن يصل الطاعون إلى ميلانو، ويقتل دون رودريجو ولكنه يبقي على حياة البطلين.
معظم القراء قالوا إن الفصول التي تتناول الطاعون، عندما ترك مانزوني لشخصياته رواية قصة وصول الطاعون إلى لومباردي، بدت هي الأكثر واقعية بالنسبة لهم. في الكتاب كما هي في الحاضر الآن، كانت لومباردي المنطقة الرئيسة للتفشي الأوّلي للمرض. في ذلك الوقت، مثلما هو الآن، قدم المرض من الخارج، السياسيون الإيطاليون (مثلهم مثل المملكة الإسبانية التي حكمت ميلانو في حقبة الرواية) كان رد فعلهم بطيئًا، والانتظار سهّل انتقال العدوى. تجاهل السكان المشكلة في البدء أو أنكروها، ثم أصبحوا مرتابين بشكل مفرط بشأن الأجانب، بعد ذلك أصيبوا بالذعر.
«في تلك الصفحات يوجد بالفعل كل شيء [نعيشه اليوم]. القناعة بخطورة الأجانب، والصراع العنيف بين السلطات، [...] الشائعات المنفلتة، والعلاجات السخيفة، والغارات على البضائع ذات الأولويَّة الضروريَّة، وحالة الطوارئ الصحية... أكثر مما تكون من رواية مانزوني، تبدو الصفحات وكأنها جاءت من إحدى صحف اليوم»، كما كتب دومينيكو سكويلاس، مدير مدرسة فولتا الثانوية في ميلانو، إلى طلابه في رسالة مفتوحة عندما قررت الحكومة تعليق دوام المدارس في 24 فبراير.
في حالات أخرى، كان لجوء القراء إلى الكتاب ليس فقط لتعلم الحقائق التاريخية والتكهن بعاقبة الجائحة، ولكن لاستخلاص الدروس. بعد التوصيفات التاريخية، يتابع مانزوني رينزو وهو يدخل ميلانو ويلاحظ مشاهد مروعة: محاولات إعدام دون محاكمة، أمهات حزينات، وعائلات في الحجر الصحي متروكين من دون طعام، مع تسمير أبوابهم على الحيطان لحجزهم في الداخل.
أخبرني سكويلاس أن المقارنات كانت مفيدة لأنه اعتقد أنها ستعلم طلابه درسًا قيمًا: عندما تصيبنا الجائحة، كما يقول، يكون من السهل أن نفقد إنسانيتنا: «الخطر هو أن رؤية العدو في كل مكان تسمم حياتنا، وتفاعلاتنا الاجتماعية، ويؤدي إلى بربرية الحياة المدنية»، كما يقول.
قال لوكا نابوليتاني، وهو قارئ من تيرامو في وسط إيطاليا، إن أكثر ما أذهله هو حقيقة أن نهاية الكتاب أظهرت كيف يمكن أن تخلق الأوبئة مساواة عظيمة. فعندما يضرب الطاعون، لا تعود الثروة والطبقة مسألة مهمة. «حتى لوسيا الورعة «قسّت قلبها» الحياة في خاتمة الكتاب، علامة على أن المشقات يمكن أن يُبتلى بها الجميع، حتى أولئك الذين لديهم قيم دينية متأصلة».
 
تشبع دوافعنا البدائيَّة
أخبرتني تيزيانا بينيديتي، وهي معلمة مدرسة ابتدائية متقاعدة، أنها وجدت أن أكثر الشخصيات واقعية في الرواية هي شخصية الأرستقراطي والمثقف دون فيرانتي، الرجل الذي كرّس معظم وقته لحجب البحوث والمؤلفين والعلوم. عندما وصل تفشي الطاعون إلى ميلانو، رفض الاعتراف به، وقام بدلاً من ذلك بصياغة نظريات تنجيمية وفلسفية معقدة لتفسير الواقع. قال بينيديتي: «إنه يذكرني بمثقفي اليوم الذين نفوا أن يكون الفيروس التاجي خطيرًا. إنهم يعيشون حياة بعيدة كل البعد عن الواقع اليومي».
لقد أدهشني أن الشخصية التي انجذبت إليها أيضًا، مثل مكنسة دون أبونديو والمعاناة التي ذاقها الجميع على حد سواء، كانت تلك التي عبّرت عن أكثر صور العدالة شاعريةً وسخريةً: في النهاية، يموت دون فيرانتي مصاباً الطاعون الذي حاول دحضه.
في غضون ذلك، حينما كنت أجري هذه المحادثات، اقتربت أكثر من الوباء. تحدثت إلى الأطباء العاملين في الخطوط الأمامية ومع المصابين، والأشخاص الذين حياتهم تعطلت بسبب الإغلاق، وإلى العلماء الذين يحاولون تعليل سبب حدوث ذلك في إيطاليا. وأدركت أن كل هؤلاء الأشخاص سيتناولون الكتاب لأسباب مختلفة جدًا، فالعثور على كتاب موحِّد كان دائمًا مهمة محكوم عليها بالفشل.
تتفق البروفسورة ريكوبونو مع ذلك. فقد يبحث البعض عن التوجيه الأخلاقي أو العزاء، والبعض الآخر قد يحاول فهم الاستجابة تجاه الجائحة الحالية من خلال أخطاء الشخصيات في الكتاب، والبعض الآخر ينجذب إليه ببساطة بسبب ثيمة الجائحة التي يعرفونها جيدًا. في جميع الأحوال تقريبًا، بالرغم من ذلك، كانت قراءة (الخطيبان) غريزة دفاعية، كما تقول ريكوبونو، «في جذورها، يكمن خوفنا، وعندما يتم تصوير الخوف بمثل هذه الطريقة الأصيلة، سيمكننا تطهيره».
ومع انتشار جائحة مهلكة أخرى، كما تقول، فإن الاستدارة نحو القصص القديمة التي نعرفها يشبع دوافعنا البدائية. نريد أن نعرف كيف انتهى الأمر بالنسبة لهم وكيف سينتهي بالنسبة إلينا.
LITERARY HUB