هانا ماركوس
ترجمة: جمال جمعة
منذ بداية جائحة الفيروس التاجي، كانت الصراعات بين الحريَّة الدينيَّة وقوانين الصحة العامة تدور في المحاكم حول العالم.
لقد استهانت الكنائس من كاليفورنيا إلى ولاية ماين بأحكام الصحة العامة من خلال عقدها الاجتماعات شخصيًّا، داخل المبنى، من دون كمامات، ومصحوبة بالجوقات. عندما قامت كنيسة سرّية في كوريا الجنوبيَّة ببذر واحدة من أكبر حالات تفشي المرض في البلاد في شباط، ردّت الحكومة باعتقال زعيمها على عرقلة تعقب الاتصال وانتهاك لوائح الصحة العامة.
إنَّ ما يصدم بشكلٍ ملفت في اللحظة الحالية ليس أن بعض الجماعات الدينيَّة تتحدى إجراءات الصحة العامة، بل إنَّ العديد من المؤسسات والشخصيات الدينيَّة تعمل بتقوى على تطبيقها.
تكشف الروايات التاريخيَّة عن تفشّيات الطاعون في إيطاليا في القرن السابع عشر عن توترات بين السلطات الدينيَّة وسلطات الصحة العامة، وأيضًا عن أمثلةٍ على التعاون على حدٍ سواء.
مواقع الصراع
في صيف عام 1630، ملأ وباء الطاعون مستشفيات الطاعون المعروفة باسم «لازاريتو» بأكثر من 15.000 شخص في ميلانو. البلدات الصغيرة واجهت أيضًا تفشي المرض الذي أنهك موارد مجتمعاتها.
في بلدة براتو التوسكانية، بدأ مسؤولو الصحة العامة في الشك بحكمة معالجة مرضى الطاعون في اللازاريتو «المستشفى» الواقعة داخل أسوار المدينة. كانوا يخشون من خطر الإصابة بمزيد من العدوى فيما لو بقي الأصحاء بهذه الدرجة من القرب مع المرضى.
احتاج مسؤولو المدينة إلى تحديد موقع بديل يكون بعيدًا بما يكفي للحفاظ على أمان المدينة، ولكن قريب بدرجة كافية بحيث يمكنهم نقل المرضى إليه بسهولة. قرروا أنَّ دير سانت آن، الواقع على مبعدة بضعة كيلومترات خارج البلدة، يمكن أنْ يكون بمثابة «لازاريتو»، فقاموا بمصادرته.
أثارت مصادرة ممتلكات الكنيسة من قبل السلطات الاسميَّة العلمانيَّة لدوق توسكان الكبير حنق رهبان سانت آن، فالتمسوا من الدوق الأكبر فرديناندو الثاني دي ميديتشي إلغاء القانون، لكنه تجاهل اعتراضاتهم.
حدود الحاكميّة
ومع ذلك، فقد كان لسلطة الدوق الأكبر حدودها. في مدن أواخر عصر النهضة، يمكن للسلطات المدنية معاقبة المواطنين على المخالفات الصحية العامَّة، لكن لم تكن لديهم سلطة مباشرة على الإكليروس «رجال الكهنوت».
عندما خرق أحد القساوسة في فلورنسا الحجر الصحي ببقائه حتى وقتٍ متأخرٍ من الليل يشرب ويعزف على الجيتار مع أفراد الأسرة، قامت لجنة الصحة بمعاقبة شقيقاته، لكن ليس هو.
لمعاقبة الكهنة الذين يخرقون قوانين الصحة العامة، كان على السلطات المدنية أنْ تلتمس من مسؤولي الكنيسة المحليين، مثل الأساقفة، التدخل. على سبيل المثال، ما أنْ انتشر الطاعون في مدينة بستويا بإقليم توسكان في أيلول 1630، حتى قرر مسؤولو الصحة العامة أنْ يناقشوا مع رئيس الأساقفة إمكانية إفراغ أجران المعمودية من المياه المقدسة في حال انتشار المرض.
حالة الأب دراجوني
مثلما هي الحال اليوم، عندما ألغت السلطات المدنيَّة الخدمات والمراسم الدينية، تبع ذلك احتجاجات محلية.
خلال اندلاع الطاعون عام 1631 في البلدة التوسكانية الصغيرة مونتي لوبو، اندلع شجار بين الحراس المكلفين بمنع التجمعات ومجموعة من المدنيين المسلحين من الأرياف المجاورة وقسيس أبرشيّتهم.
أصرّ المصلون على التجمع للصلاة عند الصليب في الكنيسة المحلية وهددوا بإطلاق النار بالطَّبَنجَة (بندقية طويلة استخدمت خلال عصر النهضة) ضد أي شخص يقف في طريقهم.
كان مأمور الصحة المكلّف بمهمة إدارة الوضع الحساس في مونتي لوبو راهبًا دومينيكيًا يبلغ من العمر 60 عامًا، وهو الأب جيوفاني دراجوني، الذي كان مسؤولاً عن الصحة العامَّة وعضواً من الإكليروس «رجال الدين» في الوقت نفسه.
الأب دراجوني، كما قيل، كان غاضبًا من كاهن الأبرشيّة لتجاهله إجراءات الصحة العامَّة، فبعث برسالة على الفور إلى مفوض الصحة الإقليمي: «من الضروري اتخاذ تدابير ضد هؤلاء المحرضين على الشغب. الأدلة جدّية، و... قسيس الأبرشية المبجّل مسؤول إلى حدٍ كبير عن هذه التمردات».
لم يستطع الأب دراجوني منع كاهن الأبرشية والمصلين من التجمع والاحتفال. لقد وجد نفسه علاوة على ذلك مثقلاً بتسوية الأحداث التي أعقبت الموكب في صباح اليوم التالي، عندما تحولت الصلاة والولائم إلى حفلات سكر وعربدة حتى وقتٍ متأخر من الليل من قبل المحتفلين الذين هدموا جزءًا من الحاجز الخشبي الذي نصب لفرض الحجر الصحي.
آنذاك والآن
بعد أربعة قرون، ثمة أمثلة مماثلة على المعارضة الدينية لإجراءات الصحة العامة وأمثلة مدهشة على التعاضد الديني مع لوائح الصحة العامة.
على الرغم من وجود حالات على قيام فيها أقطاب الكنيسة بحشد المصلّين ضد الإجراءات الصحية العامة، إلا أن هناك أمثلة أكثر بكثير لأشخاص ومؤسسات قاموا، مثل الأب دراجوني، بالجمع بين التقوى الدينية ومكافحة الأمراض.
عندما اجتاح الفيروس التاجي إيطاليا في شباط من العام الفائت، تجاوب بطريرك البندقية (الأسقف) على الفور مع مرسوم الحكومة بإلغاء القداديس، وقام بدوره في حماس لكبح الوباء. وفي الكنائس الإيطالية حول تورينو التي بقيت مفتوحة للصلاة الشخصية، أفرغت أحواض المياه المقدسة على الفور.
ولكي نكون واضحين، فإنَّ ثمة تاريخاً طويلاً من المعارضة الدينيَّة للتدابير الصحيَّة العامة خلال تفشي الأوبئة، لكنّ التعاون بين الكنيسة والدولة في محاولة وقف انتشار المرض له سوابقه كذلك.
The Conversation