في منهج البحث العلمي وما إليه

ثقافة 2021/02/14
...

 د.علي حداد
 
(1)
       ليست عبارة (منهج البحث) التي ترفعها (الدراسات الأكاديمية) ـ والدراسات الجامعية الجادة منها بخاصة ـ لافتة دائمة الحضور مع منجزها القرائي، وتبوب متونها على وفقه مجرد تأول لهوية مدعاة، إنهما افتراض حصيف لمرتكز من الوعي والفاعلية يمتلكان محدداتهما المعرفية التي تشتمل عليهما، وتكرس صيرورة التناول من خلالهما. فإذا كانت مفردة (منهج ـ (method تعني ـ في أبسط تعريفاتها وأشملها ـ طبقاً لما رآه الدكتور (علي جواد الطاهر) «طريقة يصل بها إنسان إلى حقيقة (منهج البحث الأدبي، ص19) فإن المنطق المنبت في البحث عن تلك الحقيقة والتكيف المعرفي الذي تتأسس عليه ـ
فضلا عن محصلة المتحقق أخيراً منها ـ هو ما يكرس تلك الطريقة لنمط التمثل المنشود، فالعلوم الرياضية ـ مثلاـ تختط لها سياقاً منهجياً (استدلالياً)، أما العلوم الطبيعية فتتمسك ـ في الغالب عليها ـ بالمنهج التجريبي، في حين تباين الدراسات الإنسانية ـ والأدبية منها بخاصة ـ ذلك لتشتغل على نزعة (استقرائية) أو (استردادية) كما يصفها الدكتور الطاهر، وهي ذات طبائع (توصيفية/ تحليلية) تحضر بين طيات منجزها الذات الكاتبة لها، بتكوينها المعرفي واشتراطات مثاقفتها اللغوية.
إن المنهج أداة توسل تقود إلى التيقن المطمئن، وبدونها فربما بقي الدرس البحثي مجادلة سائبة وغير منضبطة في إجراءاتها وتوصلاتها، وذاك ما استوعبه (ديكارت) بقوله “خير للإنسان أن يعدل عن التماس الحقيقة من أن يحاول ذلك من غير منهج”. فبالمنهج وحده تتأطر وجهة التمثل المعرفي وتستقيم صيرورة متحققها دالة على الناجز والمنجز.
  ولا شك في أن مفردة (منهج) تكتنف في مخبوئها حيزاً من التأشير الدلالي الذي تحمله مفردة (البحث) (research) المحاددة لها في هذا التوجه، والمتماهية معها في الإدلال عليه، حتى أنه لا يمكن استدعاء أحداهما من دون الأخرى ـ بل إن مفهوم المنهج يبقى ذا توصيف (نظري) عائم وغير مشخص من دون أن تقرن المفردتان معا، فيقال: (منهج البحث). 
وعلى هذا ينظر إلى (منهج البحث) في الدراسات الأكاديمية ذات الوجهة الإنسانية ـ بحدوده النظرية والإجرائية ـ على أنه نزعة معرفية وكدٌّ من الوعي والتجارب والقراءات المعمقة، وقبل ذلك ومعه استعداد متمثل في الذات ـ الذات المتخصصة ـ التي تكرس وجودها المعرفي بكل أبعاده لمسعاها المقترن بالانهماك الجاد والمثابر لتحقيق مخرجات كشف حصيفة وجديرة بأن يتلقاها الآخرون. وبها يستقيم حد العبارة، وتستحيل الممارسة فاعلية منتجة في بعديها المعرفي والإجرائي.
(2)
 يضع أساتذتنا الذين نظّروا لمنهجية البحث الأكاديمي جملة مرتكزات ـ نظرية وعملية ـ يرونها هي من تمنح الكتابة في هذا الأفق المعرفي توصيفها المؤكد، مكرسين خطوة البدء بأي بحث بتخيّر قضية ما وتأملها والانشغال بها والرغبة في استنباط ما يمكن استنباطه من الكشف ونزوع الإضافة المعرفية في سياقها.
 ولأننا نتحدث عن كاتب نوعي نصفه بأنه (باحث) ـ ولا يشترط به نيل الشهادة الجامعية العليا هوية انتماء لهذا التوصيف ـ فلا بد له أن يأتي لتناول تلك الموضوعة مزوداً بأفق حصيف من الوعي الفلسفي والجمالي الذي يؤطر الفكر ويحدد منطلقاته ونزوعه في التوجه القرائي، وما يتناوله ويحاوره. وسوف يتماهى معه استدعاء طرائق البحث ووسائله التي تمّ التواضع عليها وتداولها، حتى غدت سنّة لتوجهات قرائية ينماز بها (البحث العلمي) عن سواه من الدراسات ومجالات القراءة الأخرى التي أشار إليها (تودوروف) كالذاتية والصحفية وسواهما، بما تنهض عليه إجرائيته من استقراء للوقائع واستنباط ثيماتها، ومجادلة الأفكار في نسق من التبويب الملتزم بقواعد الاستشهاد النصي والإحالة، وتثبيت مرجعياتها، وتنضيد سياقات الكتابة وأسسها الفنية، وتبني طرائق خاصة في تناول المصادر والهوامش والإشارة إليها.
وهكذا يستقيم وجود البحث العلمي منذ (العنوان) الجامع بين الجدة والدقة، مثلما تخبر عنه توصلاته الفكرية وهي تطرح وعياً معرفياً يعلن عن امتيازاته من الخصب والتذوق والخيال الخلاق، لاسيما حين يكون الجهد منصباً على قراءة الإبداع. 
ولا شك في أن هذا الإنجاز المعرفي وما يقتضيه لا يتأتى بالنوايا الطيبة، فلا بد من أن تسبقه الرغبة فيه التي تصنع لنفسها دأباً من التتبع والاطلاع على ما قيل وما كتب. ولا مناص من مجادلته من منطلق التوثق والشك الباحث عن التيقن.
يأتي ذلك كله متماهياً مع ما يشترط استحضاره من مقومات تندرج في الذات الباحثة التي تحصن وجودها المعنوي الحصيف بها، وتتمثل بالدأب والمثابرة، والانصاف والتجرد والأمانة والجرأة، والاطمئنان إلى مقدرة لغوية منضبطة. 
وهكذا تحتشد اشتراطات البحث العلمي كثيرة وحازمة في فروضها ومرهقة بالتزاماتها. ولعلها وراء انصراف كثيرين من الخوض في هذا الأفق المعرفي ونزوعهم إلى التفلت منه.