قصيدة النثر رحبة وغنية وواسعة كالبحر، رغم اختلاف التسميات والتنظيرات، هي لا تشبه إلا نفسها في بنيتها، والشعر في ذاته وطبيعته، الشعر المحض والخالص هو ما يتماهى مع الوجود وتنطق به الطبيعة في أنقى وأبهى صورها ويتجسد في مفرداتها، والذي لا ندرك مظاهره إلا ونحن نتأمل العالم بما يحتويه.
الشاعر سعد ياسين يوسف الذي اختار من الطبيعة الشجرة كرمز في قصائده يرى كلَّ شيءٍ في الكون عبار عن شجرة، ولهذه الشجرة موسيقى أيضا، وهذا ما جسده في قصيدته (شجرة الموسيقى) وهو عنوان موسيقي أخضر لشجرة الشعر برؤية تشكيلية، والتي تبدأ بما يثير دهشة الفيزياء عبر تكنيك المزج البصري والموسيقي، وهو ما بدأت به المدرسة المستقبلية في تشكيل الحركة، وجسدته الانطباعية في الألوان، فالريح أوتار الطبيعة، والاهتزاز هبة الريح للغصن الذي اهتز، وتحرك، وتأرجح، فتذبذب الى تردده وانتظم حول أصله، فأنتج صوراً متلاحقة لذاته في فعل الحركة، فاختلج لونه من الأخضر الساحر كصوت دافئ وعميق، إلى الاخضرار بدرجاته الموجية واللونية حتى يعود مع ما افترضته أوركسترا الطبيعة من تماهي الشعر في الضّوء واللون، هكذا تذهب الموسيقى وهي تموج بالأماني إلى النهر بمتسعات لونية على امتداد خطواته في جريانه: (حينَ اهتزَّ الغصنُ/ تسارعَ خطوُ النهرِ/ وهو يخبئ قرصَ الشمسِ/ تحتَ جناحِ الأسئلة/ هي شالُ حريرٍ فيروزيٍ/ لفّتهُ الريحُ وطار/ كجسدِ ملاكٍ في حقلِ
سنابِل).
وفي ما يلي من الإبداع في القصيدة يقدم الشاعر لوحات حرة ومتتالية، تنمو وتستطيل في الكلمات التي تجعل من الغياب حضوراً، وتندفع في اتجاه الضّوء، متناغمة في وميض اللحظة، حتى ندرك هذا الجميل من الشعر وما يمكن ابتكاره على شكل لوحات انطباعية ترافقها موسيقى (كلود ديبوسي) كموسيقى تدخل في الحلم، فهناك شعر لأن هناك حياة، يقول الشاعر: (هي شالُ حريرٍ فيروزيٍ/ لفّتهُ الريحُ وطارَ/ كجسدِ ملاكٍ في حقلِ سنابِلَ، هيَ لغةُ الحزنِ إذ تتغللُ في
روحي..).
هنا ندرك محاولة الشاعر، الوصل بين المثال والصورة، بين اللغة ومجازها في كثافة حضورها وطاقتها في محمولها اللغوي، حتى وهو يؤدي قصيدته في حيز هذه اللغة الشعرية، التي تتمكن تدريجياً من النمو من داخل لغة الموسيقى وتطويعها شعرياً وتشكيلياً، فالصور الشعرية متحركة عبر تمثيلها اللوني، وحضورها اللحظي في زمنها المطلق، وحركتها في الكلمات، فيجعل من الضّوء يد الأرض الممدودة إلى السماء دعاءً والكلمات ابتهالاً بأجنحة
الأبدية:
(انبلاجُ الضوءِ من شفتيِّ الأرض/ سماءٌ خلعتْ بردتَها الداكنةَ/ لترينا بعضَ مفاتنِها.. / صرختُهُ الأولى/ وهو يغادرُ عرشَ الدفءِ).
كأن الكلمات تلامس الألوان والأوتار، لتصنع الإيقاع النهائي في القصيدة سمواً، فابتكار قصيدة انطباعية لا يكون إلا بكلمات شفافة يتناسق من خلالها اللون بدرجاته الضوئية، وهي لا تكون شعراً حتى تكون موسيقى، فالشعر يتمازج مع ذاته ليتمثل بورتريه للموسيقى على شكل شجرة، ابتكر له الشاعر أسلوباً ذا طابع ابتهاجي إيجابي وخلاق بإحساس الرسام وروح الشاعر وأفق المايسترو، تحضر الموسيقى فيه كشجرة، وتحضر الشجرة فيه كقصيدة، فأزهرت بعدها شجرة الموسيقى واتحدت عندها الرّؤية والرّؤيا:
(غناءُ "الشبّوي" ذاتَ مساءٍ
حينَ بَعُدنا عنها...، وتجاهلنا خضرتَها
وهي تصوّبُ رشقاتِ العطرِ
وتشدّ، تشدُّ، مثلَ صغيرٍ.. يشدُّ ضفيرة
أمه، يصطنعُ بكاءً كي تمنحَهُ قُبلةَ أصغاء،
فَلِمَ لا نُصغي، نكسرُ "سُلمَها" اللامتناهي
ونردمُ كلَّ ينابيع الماءِ ونحنُ نغورُ برملِ الصَّحراءِ؟!).