أنثروبولوجيا الخيال .. الأرواح الشفرات .. الأساطير

آراء 2021/02/17
...

 د. يحيى حسين زامل  
في السرد الأنثروبولوجي هناك أيضاً بوح مع النفس ومناجاة، وتخيل عوالم من الهواجس والافكار المتمردة على العقل، أو تفرد حسي وأنطولوجي بعيداً هناك، في مكان ما من الذهن البشري، حيث الذات وهي تتصارع مع الكائنات المتخيلة، فالصورة المتخيلة ليست شرطاً أن تكون متخيلة بالكامل، فربما هي واقعية مئة بالمئة، ولكن بأسلوب يراد منه أن يكون متخيلاً، إنها «أنثروبولوجيا الخيال»

الذي أبدع فيها الأنثروبولوجي الفرنسي «جيلبير دوران»  Gilbert Durand))‏ (1921–2012)، والتي تمثل إعادة اعتبار جذري للقيمة المعرفية والعلمية للخيال، وهي تصور يقود الى الأخذ بعين الاعتبار مجموعة متنوعة ومختلفة من المناطق الروحية والنفسية والذهنية، التي كانت معزولة في العقلانية الأوروبية الضيقة، مثل الأساطير والأفكار قبل المنطقية والخواطر البدائية. 
وقد هدانا “دوران”، من خلال كتابيه “البنى الأنثروبولوجية للخيال” (1960) و “الخيال الرمزي” (1964)، الى نمطية مبدئية عامة، هي عبارة عن دليل اجرائي وكلي في الوقت نفسه، يجمع بين مختلف معالم الخيال، في متحف متحرك من الصور والأحلام والرؤى، وقد هدانا المنهج نفسه الى اعادة تقويم تصوراتنا الشائعة بشأن الحقيقة، على ضوء تصور جديد أسماه “دوران” باسم الأكاذيب والأوهام الأكثر حيوية والأكثر صحة من الحقائق الرياضية والمنطقية الباردة أو الميتة... وفي هذا المجال نفسه يمكن تناول عدد من النصوص المتخيلة للأرواح والشفرات والاساطير.
 
العمل السردي الأول: الأرواح
الانثروبولوجي مثل صياد يخرج للبرية يحمل بندقيته وشباكه بحثاً عن طريدة، يجتاز الأحراش والأدغال ويتفقد الفخاخ التي نصبها من اليوم السابق، فإذا لم يجد شيئاً، رجع مثل صياد بائس لم يعثر على طريدته المنشودة، يعد الشاي على حطب الغابة ويدخن سجائره المعتادة فيختلط دخانها مع دخان موقده الذي أشبه ما يكون بنار قربان يتقرب به إلى ملاك الغابة أو حارسها، فيسكب قدحا من الشاي اسفل شجرة البلوط، ويشعل سيجارة ويضعها بين تلك الأغصان أملاً بطريدة من الطيور أو الأرانب أو حتى الثعالب ففراؤها جميل، ويستطيع أن يتدفأ به من برد الشتاء، أو يقايضه ببضع نقود أو علب سجائر.
إنها الغابة، تمنحنا ما نريد من دون مقابل، كلما عليك الدخول والتوغل إلى داخلها بين احراشها البكر، بين تلك التلال البعيدة، في عسس الليل أو فجر يعتليه الضباب، ربما ستأخذك الغابة بعيداً بين احضانها، تحتاج الدفء ايضاً، فهي كائن يستطيع تحسس وقع اقدامك على اوراقها الساقطة، روح الغابة تحتاج إلى روح تناجيها، لذلك باستطاعتك ان تأخذ روحك معك وتتوغل إلى عمق الغابة، حتى تذوب كل ملامحك في ملامحها الطرية أو الندية لا فرق... فهذه الشجرة لم تمت فقد بعثت فيها الروح من قبل الإنسان بفنه ورمزه، فجعلها أيقونة ترفل فيها الروح من 
جديد.
 
العمل السردي الثاني: الشفرات 
إنك لن تضع رجلك في الغابة مرتين، قالها الانثروبولوجي الصياد وهو يدور بعينيه في أرجاء الغابة، في حين أن جهات الغابة الأربع تلاقت وتلاصقت في نقطة الصفر ثم سقطت إلى الأرض...عندها انبثق ضوء خافت سرعان ما انبلج عن نور ساطع، مع عطر أخَّاذ ملأ المكان، ليتجسد عن روح شفاف تكثف عن جسد أبيض، فدار في ذهنه أنه ملاك الغابة أو حارسها، أو قل روحها. فالتصقت تلك الروح بروح الصياد وتمازجت، وتمازجت أكثر فأكثر بيد القدرة، فأصبح الصياد فجأة يرى كل شيء في الغابة، ويمد يده إلى أي شيء فيأخذه بكل سهولة، أصبح يرى الطيور واحشاءها وما تحتوي من حَبٍ وحشرات، ويرى قطرات الماء كيف تمضي في أغصان الأشجار إلى الأعلى، والفراشات كيف يتطاير منها مثل ذرات الهواء، وأصبح يسمع أدق الأصوات، بل آلاف الأصوات ويميز كل صوت ومصدره مثل جهاز يفك الشفرات.
    : يا إلهي ما يحصل لي، قالها الصياد وهو يشاهد ويسمع شفرات الحياة تتفكك أمامه، من خلال ما امتلكه من حس انثروبولوجي، وتماس مع ذلك الشيء المجهول في الغابة، أي جنون أمُرّ به، هل هذا كذب أم حقيقة ذلك الذي يجري أمامي؟. وتراءت أمام الصياد آلاف الشفرات، من أرقام السيارات والهواتف والنقود والاقفال وحتى البشر لهم شفرات جينية واجتماعية، إذ لكل فرد شفرة خاصة يمكن الولوج من خلالها، ويبقى الإنسان من أعظم شفرات الحياة، (وتحسب انك جرم صغير وفيك انطوى العالم الأكبر). 
وفي لحظة ما، وفي نقطة الصفر ذاتها افترقت تلك الجهات الأربع من جديد مع صوت ووميض عال، ينبئ عن العودة إلى نقطة قدم الصياد حينما وضع رجله على أرض الغابة.
 
العمل السردي الثالث: الأساطير
- أسطورة.. نعم أسطورة.. إننا نعيش في أسطورة كبيرة، ومنذ أن خلق الله الانسان على وجه الأرض وهو يحوك الأساطير، عن الله والملائكة، والشياطين، والكائنات الغامضة، والمخلوقات الخفية، والظلام والنور والشمس والقمر، والنجوم والبشر. 
بالنسبة للصياد الانثروبولوجي يعد الهور من الأساطير العراقية، وحين ينظر إلى حدوده لا يجد إلا حدَّاً مثل خيط رفيع بين لونين الزرقة والخضرة، تشوبه بشكل فطري رماح القصب والزور والنفاش و (ذيل البزون)، وزرزور يتأرجح على قمة قصبة كلاعب سيرك، وكلما يوغل مع دليله المحلي في بطن الهور، تنفتح امامه أغوار الهور مثل سجل ضخم، تقلب صفحاته قوة خارقة. و(الـﮔواهين) التي هي أشبه بشوارع المدينة، تسمح لقاربه أو قل مشحوفه السومري، ذي القمة التي تشبه فوهة دلة قهوة ولكن بشكل مقلوب، بالانسياب فوق سطحه بمهل، بعد أن يغرز الدليل عصاه الطويلة (المردي) في خاصرته
 الرخوة.
 - أسمع صوتاً مبهما يأتي من الارجاء، أشبه بصوت انسان أو حيوان يستدعي جنسا آخر من سكان الهور، لكن دليلي في المشحوف لم يبال بهذا الصوت، يتكرر هذا مرة ثانية، قلت له إلا تسمع، فقال لا تبال به، انه (الطنطل)، غالبا ما نسمع صوته حين نكون بعمق الهور، إنه يستوحش ايضا ويحتاج إلى رفقة... فقلت له إن (الطنطل) أسطورة، وكائن خرافي يعتقد به الريفيون أو سكان الاهوار. فقال دليلي: والايشانات، والحفِيظ، وجبل الهفوة للملكة هيفاء، وسفينتها الذهبية التي تظهر في الفجر، هل هي أسطورة ايضاً... ثم زم شفتيه 
باستياء. 
فقلت له اسمع ايضاً عن (عبد الشط)، كائن اسود يحب اللعب، يشبه رجلاً أسود يخرج في بعض الأحيان في منتصف الليل، فقال : نعم إن أبي حدثني عنه، وفي ذات يوم امسكوا واحداً منه، فأخذ يبكي ويتوسل بهم، فأطلقوه.
ساد الصمت طويلا، بيني وبين دليلي، إلا من صوت طائر أو حيوان برمائي بين القصب المتشابك، وصوت موجات الماء الذي يحدثه مشحوفنا الخشبي، والدليل اشبه برجل آلي يدفع، عربة طويلة بخفة واضحة، فهو مرة يضع المردي على اليمين وأخرى على الشمال، ليوازن سير المشحوف نحو الجهة 
المطلوبة. 
وحين وصل المشحوف إلى استدارة في الهور أحسا بصوت غريب وحركة في القصب و”البوه” النابت في الماء، فظهر أنه سرب من طيور الماء الخضيري، استشعر اقتحام عالمه فتصادم فيما بينه، ثم طار. لحقها صوت طائر (الطوطوة) الذي يتشاءم منه الكثير من الناس، يقترب أكثر فأكثر، عندها التفت الدليل إليَّ، وقال ربما حان وقت العودة
 للديار.  وعندها بدأ قرص الشمس بالنزول إلى بطن الهور، ليحل ظلام خفيف في القاع الاسفل من الماء، بينما لاحت ذبالة من نور خفيف تغادر رؤوس القصب، وكأن الهور يرجع صفحات سجله المطوية بشكل عكسي، ليختفي ذاك الخيط الرقيق بين الزرقة والخضرة، ليتحول إلى ظلام دامس.
في خاتمة المقال تعد “أنثروبولوجيا الخيال” أرضاً بكراً في الدراسات الشرق أوسطية تبحث عن حارث للأساطير التي طالما شغلت الناس، وأحالت ليلهم إلى قلق وسهاد، تبحث عن باحث واعد يقلّب بعصاه الأحجار والصخور المتراكمة فوقه.   
 
 باحث في الانثروبولوجيا