الاشتباك مع القارئ وإنتاجيَّة النص

ثقافة 2019/02/04
...

القاهرة/ أسامة الحداد
في ديوانه الجديد "رب على شكل طائر" والصادر مؤخرا عن منشورات أنا / الآخر يواصل محمد عيد إبراهيم اشتباكاته مع القارئ ويؤكد  موقفه وانحيازاته الجمالية والأيديولوجية، فمنذ العنوان العتبة النصية الأولى يفتح آفاق التلقي ويواصل ممارساته الدلالية، إنه يبدأ بكلمة رب  بكل ما تحمله من دلالات وموروث ثقافي وديني، فرب تعني صاحب كما تشير إلى النبي في الأدب العبراني، والآلهة في الميثولوجيا وتحديدها في شكل طائر يدفع بنا في اتجاهات متعددة فحورس الإله المصري كان على هيئة صقر مجنح، والطائر " إنزو" لدى السومريين سارق اللوح، والمسيح في اللاهوت قام من قبره محلقا في السماء، ولا يمكن – بالطبع – أن نتجاوز الطواطم لدى الشعوب والقبائل القديمة وعبادتها وكتاب "ليفي شتراوس" حولها،  إنه في صراع مع القارئ منذ البداية وعلى المتلقي ألا ينتظر لغة شفافة أو نصا ينحو باتجاه الشفاهة واليومي والبساطة، إنه يقدم نصا يبدو من الوهلة الأولى سرديا عبر المعمار الخارجي من خلال استخدام الكتلة السردية وآليات السرد الروائية بأشكالها المتعددة، ولكنه يمنحها طاقات شعرية، ويقدم مجازا كليا قادرا على إثارة التأمل والدهشة معا.
 
ويبدو الانتهاك منذ التوطئة( إذا لم تأكل إنسانا فإنك لا تشبع) أنه يبدأ بصدمة المتلقي ومباغتته بجملة قالها " مجهول" تبدو ضد مفاهيم وقيم العدالة والإنسانية في مواصلة لمراوغاته، وانتهاكاته لما هو ثابت وخلخلة القيم المتوارثة بما فيها مفهومية الجمال. 
( هل الماثل بين عينيكِ: " الجمال قابل للتلف") ص 13  
وجاء النص الثاني بعنوان " معلقة الثدي" حيث التناص مع نصوص وكتابات لشعراء وكتاب متنوعين من ثقافات مختلفة مع الاشتباك مع المعلقات تلك النصوص العربية الباذخة، والمزج بين معارف شتى بما في ذلك ما هو موروث شعبي ( ثديك بطن دجاجة ) إن النص يعيدنا إلى الشعوب القديمة والآلهة الأم في بلاد الرافدين وبعض الديانات في الهند وفكرة الأمومية وتنظيرات فرويد حول مبدأ اللذة، والثدي داخل النص كدلالة مركزية يحمل تناقضات وتصورات حول العالم والتاريخ عبر ممارسات دلالية من القرآن إلى أوفيد وأبي نواس ورامبو، إنه يجمع العالم والتاريخ في الثدي رمز الحياة والأنوثة ( ثديك جوهر للموت، ثديك شجرة،  ثديك الملك الغشوم، ثديك فرس، ثديك عين بيضاء، ثديك امرأة تتمطى، ثديك امرأة تصعد السلم ...) عبر هذه التصورات يتشكل العالم ويجتمع التاريخ ويتجاور المقدس والمدنس معا في تناغم ويغدو الثدي رمزا للحياة والموت وإشارة إلى عذابات البشر وصراعاتهم، في أداء شعري لا يقدم الثدي كما جاء نصوص شعرية كثيرة إنه ليس الجمال الباذخ ولا هدف الرجل وغايته، ولا يمثل مصدر الجمال والأنوثة لامرأة تفتن الرجال، إنه ليس نبع لذة حمراء تشعل الدماء ولا أيقونة إنه يجاوز هذا ليكون محورا للحياة بكل تناقضاتها وصراعاتها.
وتبدو شاعرية الانتهاك في أوجها في قصيدة " أبني خليقة، قبل القيامة" حيث يقدم تصوراته عن امرأة يريدها ويحلم بها ليجمع بين شاعرية البوح وشاعرية الانتهاك في تناغم وقسوة في آن، ويصنع في الوقت ذاته رمزا لكون يحلم به وكأنه يعلن أن الأدب صانع الحياة والكون، يخلق عالمه المتخيل على تخوم الواقع، وتتواصل شاعرية الانتهاك ممتزجة بالجسدانية والممارسة الدلالية عبر نصوص الديوان؛ حيث يتبعثر الجسد الأنثوي وتبدو المرأة في تمظهراتها ودلالتها المتنوعة من الأم إلى الأنثى فالهوية والوطن  الذي تفصح عنه الذات الشاعرة وتجهر به في ثورتها وجموحها ضد ما هو كائن من خلال توظيف بنى شعرية وسردية  متعددة من بنية الحلم ( كنت أطير، نحو سماء عمياء بمجذافين، وسط غمام، لا أرى غيركِ، ولا ظلم جنبكِ، آكل من كفّيكِ لا أشبع) ص77 إلى بنية الحكاية وتوظيفها داخل البنية السردية وهي سمة داخل جسد النص حيث يتداخل السرد الحكائي ويتناثر في نسيج النص 
( ...ترنحت، كالدرويش، عندي جرّة سمينة، بآخرها كالنصْل، مِلتُ عضضته، قشرت عظمته، وفطمت اختفاءه، بين شتلات برائحة النعناع ) ص 78      
أو ( أطل صوتكِ، رحبا ورطبا، أنتِ التي غفرت، مع:
-رح، يا أحمق... ) ص77  
إننا أمام نص يشتبك مع الذات والآخر، يعمد إلى الانتهاك وكسر ما هو ثابت ويطعن التاريخ بأسئلته، ويواجه موروثات ثقافية وأنساقا فكرية ظنها الكثيرون ثابتة باعتبار أن الحقيقة هي مما يقتنع به المجتمع أو طائفة منه، وأتصور أنه بحاجة إلى قراءات متعددة باعتبار النص في حالة صيرورة تأويلية مستمرة يواصل إنتاجيته.