نحْوَ لغةٍ ثانيةٍ لكتابةِ الهمِّ الجمعي روائيّا
ثقافة
2021/03/14
+A
-A
محمد حاجم
هل تحتاج الرواية إلى لغة عليا، توازي البنية الفوقية التي تحدّث عنها ماركس، والتي تنتج عن تفاعلات البنية التحتية لأي مجتمع كان؟، هذا السؤال المباشر يجعلنا نواجه حقيقة التقاطعات الهائلة بين ثلاثة محاور (متخيل الرواية - بنية اللغة - تمثُّلات الواقع)، فكل من المسمّيات الثلاثة السابقة ينتمي لحقل معرفي يختلف تماما عن الآخر...!
لا بدّ أن نقرَّ بداية أن الرواية جسَّدتْ معانٍ عدَّةٍ لاستيعاب الأدب للمفاهيم الإنسانية، فقد أضحت مرآةً للحياة؛ لقدرتها الفائقة على إبراز
مناحي الواقع المتشعبة بخلقها عالما متخيلا لا يقطع صلته مع المرجعي، فالرواية تضع الإنسان بتجاربه ومأساته وتطلعاته ضمن ثوابتها، وما ترمي الوصول إلى فهمه واستيضاحه، وإعطاء أجوبة عما يعرضه الواقع من أسئلة
تتعلق بماهيته ووجوده، وتاريخه الممتد عبر مراحل
طويلة.
ونظرا لقدرة الرواية على استيعاب أكبر قدر من الأفكار عند الكاتب، فقد أخذ الحديث في النصوص الروائية يتسع ليشمل الحياة بجزئياتها كافة، ومن ضمنها وأهمها (الجانب اللغوي) المميز لكل محيط اجتماعي، كل ذلك كان من وجهة نظر الكاتب الذي ضاقت عليه آفاق التعبير الأدبي عن مسايرة التغيرات السريعة والهائلة، ومعالجة الانحناءات التاريخية الخطيرة في تاريخ المجتمعات، ليجد في الرواية جنيا مميزا أخذ على عاتقه تصوير تلك المراحل التاريخية وتوثيقها بمستوى أدبي فني عال ومتقن جدا، فكما هو معروف أن ((ما من مجتمع من دون تاريخ ولا تاريخ من دون مجتمع، فالرواية هي أول من جسد الإنسان تجسيدا كاملا كما هو محدد تاريخيا)) (1)، فالرواية تنطلق من الفكر المعالج، الذي يحاول طرح المشكلات برؤية مختلفة، ويقدم الأسئلة المضمرة بصورة مغايرة، تذوب فيها فردية الكاتب في صورة الهمِّ الجمعي لمحيطه الاجتماعي، لهذا ((تأخذ الرواية الواقع المفكَّر فيه، الذي مرَّ على الوعي والإدراك، ونخلته الايديولوجيا، وتكوَّن في شكل نظام وانسجامية ووحدة مستقلة)) (2)، فهي إعادة صياغةٍ للأفكار والوقائع، التي كسبها الروائي عن طريق احتكاكه بمجتمعه عبر تقنيات فنية مميزة، لذلك أصبحت الرواية ((وسيلة لقراءة المجتمع بكل دقائقه؛ لأنها ترصد حركة الإنسان وهو يئن حاملا أحزانه وانكساراته بين ضلوعه كما تتعقبه وهو يرتاد سماوات البهجة محتضنا فراديس أحلامه ومستشرفا غده الناضر))(3).
من هنا تتبادر الإشكاليات في كيفية معالجة اللغة الدارجة (لغة الهامش) ــــ كما يعبر عنهاــــ في حقل (الرواية) الأدبي.
هذه النقطة بالأساس تعيدنا لثنائية معقدة في الآداب العالمية والأدب العربي خصوصا، ألا وهي ثنائية (المركز النخبوي ــ الهامش العامّي)، ولنا أن نتصور مدى التفاوت الطبقي الذي انعكس على المستوى الأدبي فجعله ينظر لليومي والمعيش والهامش بزاوية ميتة لا تمتلك الحق في أن يعبر عنها بأي
صوت ولا بشكل من الأشكال.
إذن ما الذي تبقى لهذا الهامش كي يبرز ويظهر تفاعلاته وطموحاته وإشكالياته الوجودية والثقافية على حد
سواء.
إلى جانب حيرتنا تلك تبرز لنا معضلة أخرى، تتمثّل في (المبدع) نفسه، هل سينحاز إلى اللغة العليا في تمرير أفكاره وإبراز مقدرته الفنية في صياغة أحداث روايته بقالب لغوي متماسك لا يقبل التنازل للدارج والعامّي بأي شكل من الأشكال، أم أنه سيختار لغة وسطية ذات مدلول لفظي موائم لكل من النخبة والعوام على حدٍّ
سواء؟.
إن مهمة قراءة الواقع وترجمته في حقل جمالي معين هي ما يُعنى به (المبدع) بالدرجة الأساس؛ لذا فإن له القدرة على الخلق والإبداع وامتلاك المقومات الأساسية لترجمة المشاعر الإنسانية وهضم القضايا العامة وإعادة صياغتها بصورة مغايرة تساعده في ذلك ملكة خاصة وإحساسه بأدق التفاصيل، وتعضِّدُه معايشته للواقع، ذلك أن ((الفنان بوصفه إنسانا يعيش في مجتمع معين، إنما يتطبع بطباع مجتمعه وأعرافه وقوانينه ولا يمكن إنكار الدور الذي تؤديه هذه العوامل في صياغة شخصية الفنان وبناء نظرته الجمالية إلى الوجود)) (4)، فينطلق بتشخيص بارع للأمور بطريقة تبتعد عن التقريرية التي تحوُّل النص إلى أشبه ما يكون بوثيقة تاريخية تؤطره لمرحلة معينة من المجتمع، لهذا يعرَّف الأدب من وجهة النظر (السوسيولوجيِّة) أنه ((ظاهرة اجتماعية، وهو الإدراك الحسي للحقيقة عبر المصوِّرة الخلَّاقة)) (5)، وهو ما يتم عن طريق عالم التخييل الفني والإبداع الأدبي الذي يخلقه الفنان الأصيل؛ لأن ((الكاتب لا يتأثر بالمجتمع فقط، بل يؤثر فيه.
والفن ليس مجرد إعادة صنع الحياة وإنما تكوين لها أيضا.
قد يصوغ الناس حياتهم حسب نماذج لأبطال وبطلات من صنع الخيال)) (6).
عن طريق ما سبق نستطيع تفهُّم مقدار الإشكالية التي تقع على عاتق (المبدع)، وهو يهمُّ بكتابة نصوصه، وإذا ما تجاوزنا محنة المعالجة
يتبقى لدينا إشكالية الصياغة والطرح، ولكن بما أننا نحاول التوصّل إلى قناعة بضرورة التعرف على أبعاد اللغة الدراجة في المتون الروائية، لا بدَّ لنا من أن نتوقف عند نقطة في غاية الأهمية، تتعلق بمقدار الوجع الذي يفرزه الواقع؛ نتيجة تراكمات عديدة من المآسي والحروب والصراعات المختلفة، وتأثير تلك القضايا على الروائي نفسه.
هنا لا بدّ أن نتساءل بأيّةِ لغةٍ ستُكتَبُ هذه المعاناة؟.
لا بد إذن من استغلال اللغة بوصفها نسقا معبّرا يضمره القاع ردًّا على الثقافة النخبوية التي تعيد إنتاج السلطة في أنساقها المضمرة،
فهي مقاومة لغوية لسلطة الخطاب (7)، لذلك تفرز هذه اللغة تلفظا خاصا بها، تلفظا ينشأ بين شخصين منتميين مباشرة لمجتمع معين، فبين (المتكلم) و(المتلقي) سواءً في متن النص الروائي أو خارجه هناك علاقة دائمة، صيغة حوار متعارف عليه (8)، وهو ما يخلق تفاعلا مباشرا يبتعد عن التمايزات الطبقية بين الأعلى والأدنى.
فلا بدّ للكاتب وهو يسعى للارتقاء بعوالمه الشعبية الخفية، بأزقة المدن وحواريها، بالمتعبين، والمنهكين بوجوههم الكالحة، بشخوصه التي يبصرها ويحاول معالجتها،
لا بدّ له من معرفة عميقة بأسرار لغة ثانية، لغة موازية بثوريتها ومعاناتها للغة الخواص ذوي الوجوه البراقة من فرط الارتياح،
لا بدّ أن يعي أن لغة المهمشين تتميز بوصفها ((سلوكا لغويا يبرز فيها الطابع النقدي والمفارقة بين
المعلن والمضمر، فالسياق الثقافي الذي يشمل الاعتقادات المشتركة بين أفراد البيئة اللغوية والمعلومات التاريخية، والأفكار والأعراف المشاعة بينهم، يحدد سمات لغة الجماعة المهمشة)) (9).
لذلك لا غرابة أن نقول: إن لغةً ثانية بإمكانها أن تتولد من مركزية الفصحى وقواعدها الجامدة، لغة قوامها الهمّ، وقواعدها اليومي والمتعارف والاعتباطي، لغةً تُفهم مباشرةً من دون تعقيد إن أحسن الكاتب (الروائي) استغلالها في موضعها المعين.
--------
(1) الأدب القصصي: الرواية والواقع الاجتماعي، ميشال زيرافا، ترجمة: سما داود: 13.
(2) ما قبل الكتابة: حول الأيديولوجيا/ الأدب/ الرواية، عمار بن لحسن: 177.
(3) التحول الاجتماعي منخلال النص القصصي، د.عبد الحميد الحسامي: 5
(4) فلسفة الفن والجمال، حامد سرمك: 63.
(5) السوسيولوجيا والأدب، روبير سكاربيت، آمال أنطوان عزموني: 32.
(6) نظرية الأدب ، أوستن وارن و رينيه ويليك، ترجمة: محيي الدين صبحي: 129.
(7) ينظر: الهامش الاجتماعي في الأدب:قراءة سوسيو ثقافية، د.هويدا صالح: 252.
(8) ينظر: ميخائيل باختين: المبدأ الحواري، تزفيتان تودوروف: 122.
(9) الهامش الاجتماعي في الأدب: 253.