الشعر وانزياحاته اللغويَّة في {وحدي ولم يكن معي سوى قلبي»

ثقافة 2019/02/05
...

كريم ناصر
 
 
لقد ثبت بالدلالة القاطعة أنّ الشعر قضية كبرى إذا ما صحّ التعبير، والغاية التي يسعى إليها الشاعر الجوهري من شأنها أن تمحق قوى الشر، وهنا يمكن أن نعدّ العقابي أنموذجاً يمثّل هذه الحالة، إذ إنّنا نعلم يقيناً أنّ قاموساً شعرياً كهذا لا ينفصل بتاتاً عن المبادئ الوطنية، غير أنّ هذا المعجم الوطني يبدأ غالباً بالموقف التاريخي الذي يقتضيه ويضمن معياره..
نستطيع أن نؤكّد قطعاً أن الشعر ليس وليد العقل دائماً في المفهوم الشعري ـ مع وجود بعض التحفظات ـ ولكن بالطبع لن تبقى الحمولة الشعرية مجرّد استجابة لحاجة داخلية تحقّق الرغبة في موضوع ذاتي بل يمكن أن تحتفظ ما أمكن ذلك بالقيم المثلى التي تفرضها خاصية جوهرية تبدو وكأنّها انزياح يولّد النزف ويقتل الشاعر:
"دعنا نخرج من الرهط لطفولتنا الأولى
لرائحة البلاد التي تسيل مثل الزعفران" ص 57
"لا فرق عندي طالما شرّدتني الحروب 
واستوقفتني المنافي حينما طويت أغصان البلد" ص129
في الحديث عن موضوع الشعر فلا بدّ من الاشارة إذاً إلى ما يُسمّى بالأسلوب الشعري الذي نرى فيه من منظور خاص على أنّه نوع من الطرائق الذي يسمح بالتعبير عن ظواهر عامة، ومع ذلك فلن يبقى الشعر في ذاته نهباً للأسلوب السائد كما نرى، بل يمكن له أن يتمرّد في أيّة لحظة ممكنة على الأشكال الواقعية الدالة على المباشرة (البديهيات النمطية) ما دامت الوحدات المكوّنة له قابلة حينئذ للتطوّر، وقد يكون الانزياح نفسه سبباً لتحوّل ذهني بنيوي وهذا ما يمكن بالفعل أن يتفرّد به الشعر بالتحديد في سياقه التركيبي الأسلوبي انطلاقاً من كيماء اللغة:
" فهذا هو القلب حين يهفو 
هذا شأننا عندما نكون على مرمى الضفاف" ص91
والحقيقة ليست كلّ قصائد الشاعر منظّمة كي يجري ضبط طبيعتها ويجب أن نفهم أن منظوراً بهذا المعنى يمكن أن يفرض تأويلاً ضمن سياقه خاصةً من مبدأ استحضار الصورة الشعرية بوصفها معياراً لبنية ذهنية يقتضي بدءاً أن ندرسها انطلاقاً من وعي اللغة وبالتحديد من شعريتها المتسامية على النمط كقيمة نادرة نلتمس صفاتها الذهنية من كينونتها اللسانية:
"لا أريد أن أبحث عنك في ضياعي
أريدك في الرؤى عسى أن أدفع عنك السهام" ص6  
وإذا كان الشعراء من مريدي المدرسة الواقعية ينسجون حول أنفسهم عساليج لبناء مملكة فاضلة كما تحاك خيوط العنكبوت لبناء شبكة، فإنّ العقابي يدفع للضرورة هذه الطُغراء كدلالة على اختلاف نهجه الشعري أو لنقل على تحرّر أسلوبه من رؤية ميتافيزيقية بتحديد أكثر، وغالباً ما يقوم هذا المعُطى على تكثيف عنصر اللغة إذ تكفيه عملية البحث عن صيغة مبتكرة لمقاومة الخطاب الواقعي ـ المباشر ـ بدلالة عدم تجانسه؛ وذلك نظراً إلى محتواه، وهذا ما يبطل في نظر اللغة ميكانزمات الشكل التعبيري الشعري، ولكن هناك من يجادل فوق ذلك في أحقيّة هذا الشكل واعترافه به كقيمة رفيعة، والحال هذه فإنّ الشعر حقاً يمكن أن يكون حقل ألغام في وعي اللغة، ومع ذلك فالشاعر غير ملزم إذاك بالامتثال لقوانين اللغة كليّة بل يمكن أن يذهب مذهباً مختلفاً في اتجاه صوغ العبارة ولكن مع التشديد أن العزوف عن الواقعية ضمن بنيتها المضبّبة فكرة سهلة الادراك:
"أُسمّي الأجناس عند اصطفاف الخطى
وأتعقب النجم الذي انجلى عن غباري" ص7
والملاحظ أنّ الشعر في كلّيّته خليط من الانزياحات والاستعارات والمجازات وهذا سبب منطقي من شأنه أن يقود إلى مثل هذا الواقع لإدراكنا في أن ما من واقعة ذات دلالة إن لم يكن لها أثر جمالي و/أو أسلوبي يشير إلى الزمن تبدو اللغة فيه صارخة. 
يكفي أن نعلم أن صورة الماضي ليست إلّا استعارة لواقع سيكولوجي ملموس، لأن الشعر في هذه الحالة يمكن أن يستثير استجابة عاطفية بدرجات مختلفة، وهذا ما يوضّح أن الصورة الشعرية قيمة دلالية لها امتداد داخل التراكيب اللغوية إلّا أن مثل هذا التوصيف ليس كاملاً دائماً فلا توجد قوانين تحكمه، إذ ليس كلّ شعر بنيوي هو خلاصة لأفكار بنيوية ولا يمكن أن نؤوّل الشعر من هذا المنظور على أنّه تراكيب بلاغية بل بوصفه حالة إنسانية في زمن يستلزم تغيير رؤاه، ومع ذلك فالنتيجة واحدة لأنَّ الوحدات الشعرية خاصة لا تحتفظ بجوهرها الدلالي دون أن يشملها تأويل نلتمسه في المحتوى الفكري|.. كما برهنت لنا
 الأحداث: 
"فسوف أبتكر العلامة
وألملم خلاصة الوجع القديم" ص8
"ليتك ترشق الماضي بجمرات اللغة 
لتبصر ما تشاء من السحر" ص10
 
فالواقع أنّ للصورة الشعرية مزية ترجع إلى شعرية اللغة، والشاعر هنا يحتفظ بولائه لتلك الحمولة الشعرية التي يضعها ضمن سياقها التركيبي الذهني.