العكوسيَّة واللاعكوسيَّة

ثقافة 2019/02/05
...


 
 
ياسين النصير
 
كلما وجد الأدب والثقافة عامة، بعض جذور مفاهيمه في العلم، اتسع ميدانهما، وأصبح العلم متغلغلًا في مفاهيمهما، كما أصبحت القراءة للأدب متعمقة بمدياتها العلمية. إن هذا لا يعني أن العلم سيكون أدبًا لمجرد أننا أردنا ذلك، ولا أصبح الأدب واضحًا هو الآخر من إلتحاقه بركب العلم، إنما هناك مراحل، تسبق التحام الاثنين كأي مركبين اجتماعيين لم يجدا كامل حقولها وحدهما. وهناك عشرات الأمثلة التي طبقها باشلار ومورس وبروب، في ما يُسمّى بالوضعية العلمية التطبيقية، ومنها، العلاقة بين الجسد والأسفنجة مثلا، فالجسد يمتص العالم الخارجي ويخزنه ثم يفرزه، والأسفنجة بمسامتها تمتص وتخزن ثم نتيجة تسلط قوى عليها تفرز ما في مساماتها،
 هكذا تتجد علاقة الجسد مع العالم الخارجي من خلال الحواس، فهو يستقبل هذا العالم كما لو كان الجسد مطبخًا كونيًا يطبخ فيه كل مايصله عبر المسامات، كذلك الأسفنجة تمتص المادة الخارجية وتخزنها، ثم ونتيجة لفعل ما تفرز ما في داخلها للخارج.
العكوسية واللاعكوسية مفهومان علميان، يختصان بالمكان، ومن هنا يجيء اهتمامي بالمفهومين. لا لعلاقة لهما بالأدب والثقافة كما يبدو من الاسم بل يعطيان تصورا لدور المكان. فالعكوسية، كأن تعود للمكان الذي ولدت فيه، كما يفعل سمك السلمون، ويستطيع في مفهوم العكوسية أن يذهب المرء ويجيء تبعًا لتطورات الحدث، اي يذهب إلى مراجعه ويعود إلى ما فيه، ثم يذهب إلى تأويلاته، ثم يعود إلى مرجعياته، ومع كل ذلك يبقى الزمن يتحرك بالاتجاه الذي تذهب به إلى بيتك الطفولي، هذه عكوسية واضحة ان يحضر بيت الطفولة في الإنتاج الثقافي. 
فالساعة لا تغير اتجاه أميالها، لذا فالزمن يسير أفقيًا مع أن المكان حيث يتداخل بين الذهاب والإياب، هذا يفيدنا كثيرًا في تأثير تيار الوعي في الرواية مثلًا، وهو التيار الذي أحدث نقلة في رواية العشرين بتأثير جميس جويس، وفوكنر، من أن العودة إلى الماضي تتم بفعل الزمن هو الحاضر.أي أن المكان سيغتني بالعكوسية.
أما اللاعكوسية، وهو ما يمكن أن يكون مفهومًا إشكاليًا، لم تعنِ كما يقول جيوفاني تشيكوتي، "بفكرة الزمان، مثل العكوسية. فاللاعكوسية مفهوم حراري، فيزياوي، ومهمتها "السيطرة على قوة النار الحرارية"، أي أن ماديتها المكانية مباشرة، سنضرب مثلا تقريبيًا، عن تبديد الحرارة في حياتنا، لو أن عربتين اصطدمتا، نجد الناس تتجمهر حولهما، الكل يتحدث إما لسانا، أو عيانيًا، عمّا شاهد، لكن القلة من الناس وهم الأكثر مسؤولية وهما السائقان، سيكون كلامهما معتمدًا في تحليل حيثيات الحادث، ثم تأتي الشرطة المعنية لتثبت الحدث وفق تخطيطات لتتضح فيها طبيعة الحادث، إننا أمام جملة من الكلام الذي يدور حول الحدث، كما لو كنا نغلي على النار قدرًا فيه لحمًا، سنجد أن محيط القدر، والفضاء القريب، وما حولهما، سيتأثر بالحرارة، ولكن على درجات يحددها القرب والبعد من موضع القدر، ليس كل هذه الحرارة مفيدة للطبخ، اي ثمة "تراخ" في احتساب الطاقة، الموزعة والمشتتة، وهذه  الحرارة لايمكن أن تسترد لانها منتشرة في الفضاء،  كذلك ليس كل من يتكلم عن حادث التصادم يمكنه أن يكون صادقًا، اللاعكوسية هي الشيء الذي يحدث ولكنه غير المفيد أن يكون قياسًا لفهم ظاهرة الحدوث. ويبدو أن هذه اللاعكوسية، فيها أبعاد اجتماعية ونفسية واسعة
، لو فهمنا أنّها الطاقة المتبددة للحياة البشرية، الكلام الذي لايؤخذ به بالرغم من أنه نتاج للعملية الاجتماعية، هذا الشيء الفائض دون معنى، أو النثار المتراكم من النفايات، أوالفعل الذي لاينتج شيئًا  بالرغم من حدوثه، أو النص الذي يكتبه الثانويون والمهمشون عن الحياة الساسية ولم يؤخذ به، هو ما يشكل الطاقة المتبدية، فاللاعكوسية تهتم بهذا النثار المتراكم كما لو كانت الفضلات التي يزيحها النحات من تمثاله، في حين ان دورها المزاح من الحجر، هو الذي أظهر جمالية التمثال. وقد تحدث ديرنمارت في مسرحية "القاذورات" التي تتراكم على ابواب البيوت نتيجة اضراب عمال النظافة، فإذا بها تتراكم لتغلق الطرقات والنوافذ وتحاصر كبار السن وتهددهم بالموت. 
يشط التفكير العلمي بنا كثيرًا عندما نفكر في الحقول المختلطة بين الأدب والعلم، العلم هو الحقل الأكثر دقة عندما نفكر فيه ادبيًا وثقافيًا، وهذا هو ميدان الأجسام الحية عندما تفرز ما لا ينسجم وطبيعة آلياتها البيولوجية. ويقول جيوفاني: "اللاعكوسية ظاهرة صميمية في المنظومة (العلمية)، بل أستطيع القول إنّها علامة التطور الأكثر احتمالا"، لو تصورنا أن العودة إلى بيت الطفولة تعني (حرارة باردة) باعتبارها تخثرت في الزمن، وأصبحت من الذكريات، ولكن الحافز الذي يجعلني أفكر بالعودة، هو الزمن الحاضر، بمعنى أنّه الأكثر حرارة وديناميكية من الزمن الماضي، هو الذي أعادني إلى بيت الطفولة، وقد تكون النتيجة أني ألفت هذه الجملة "العودة إلى الذات"، سأجد أن الجملة خليط من حرارتي الزمن الماضي والزمن الحاضر، عندما أقرأ الجملة سأجد نفسي في منطقتين مختلفتين في الزمان والمكان، ولكن عندما أضع الجملة في سياق نص روائي يعتمد جريان الزمن، سأجد بعد تأمل أن حرارة الماضي الراكدة اختلطت بحرارة الحاضر الساخنة، الحرارة البعيدة تجد طريقها للحرارة القريبة، الشهود الذين سمعوا بالحادث أو رأوا بعض حيثياته أو روي لهم، ستكون إفادتهم مفيدة عندما لا أحد يستطيع الاقتراب من الحدث نتيجة اشتعاله المستمر. أو هروب السائقين، أو احتمائهما وراء سلطة سياسية. فالحرارة الجديدة ستكون متجانسة، ويكون الماضي فيها جزءًا من الحاضر، ويكون الحاضر فيها ممتدًا إلى الجذور. هذه اللاعكوسية التي ربما يشكل الوعي فيها طريقة لاذابة الحرارة العالية للمكان بالحرارة الواطئة للمكان القديم، لتكوين مكان وسطي، يجمع الاثنين.