الانتخابات الإيرانية.. ثلاثة محاور داخل جبهة اليمين الأصولي

قضايا عربية ودولية 2021/03/17
...

 جواد علي كسار
 
يمكن مقاربة خريطة القوى السياسية في الجمهورية الإسلامية، بأنها تكاد تكون ثابتة في الماهيّة والجوهر، سيّالة متحرّكة في المظاهر والأعراض. أعتقد بأن هذه الاستعارة من الفلسفة إلى السياسة، كافية لوصف خريطة القوى على مدار عقدين تقريباً من الحياة السياسية في إيران، إذ كان المشهد مستقرّاً على القطبية الثنائية، وفق مراحل عديدة.
أول تلك المراحل هو الاستقطاب الذي نشأ بين قوى الثورة أو خطّ الإمام بداية الانتصار حتى حزيران عام 1981م تاريخ تفجير الحزب الجمهوري، ومن بعده تفجير مقرّ رئاسة الوزراء، وعزل القوى المناوئة المسلحة وفي الطليعة منظمة مجاهدي خلق، وإقصاء القوى السياسية المعارضة وتهميشها، كما حصل مع عزل الرئيس بني صدر (حزيران 1981م)، وحركة الحرية (نهصت آزادى) المتهمة باللبرلة ومداهنة الغرب في أنموذج بناء الدولة، ومعها بعض التنظيمات السياسية الأصغر.
 
الثنائية داخل النظام
في مرحلة لاحقة (1981 ـ 1987م) توطّدت الثنائية القطبية داخل النظام نفسه، وتغلغلت بين مؤسّساته من الرأس إلى القاعدة تقريباً، وعبّرت عن نفسها بفهمين ورؤيتين، كان من تجلياتها ثنائية رئيس الجمهورية ورئيس الوزراء، والقوّة التنفيذية والمجلس التشريعي من جهة، وفقهاء مجلس صيانة الدستور من جهة أخرى، وهي الثنائية التي انتهت فعلاً إلى انشقاق رأسي في «جامعة روحانيت» (جماعة العلماء) وتأسيس انشقاقها متمثلاً بـ«مجمع روحانيون مبارز» (رابطة العلماء المجاهدين) والإعلان عنه رسمياً عام 1988م.
بعد وفاة السيد الخميني عام 1989م وتعديل الدستور ووصول هاشمي رفسنجاني إلى الرئاسة، بقي الاستقطاب الثنائي على حاله بين «روحانيت» و«روحانيون» لكن باختلاف المواقع لكلّ واحد منهما. فبينما كانت الهيمنة لمزاج اليسار وتياره على القضاء ورئاسة الوزراء والمجلس النيابي الثالث، تحوّلت هذه المواقع إلى اليمين بالكامل تقريباً بإلغاء رئاسة الوزراء وصعود رفسنجاني إلى الرئاسة (ينتمي إلى: روحانيت) ومحمد يزدي (ينتمي إلى: روحانيت) لرئاسة القضاء، وغلبة اليمين الأصولي «روحانيت» على المجلس الرابع وصعود ناطق نوري عضو الهيئة المركزية لـ«روحانيت» إلى رئاسة القوّة التشريعية، لتكون القوى الثلاث مجتمعة بيد «روحانيت». هكذا إلى بقية المواقع والمؤسّسات والإدارات الأساسية العامة.
صدمة خاتمي
لقد دام تبادل المواقع بين انحسار اليسار وهيمنة اليمين، حتى لحظة الانقلاب السياسي الكبير، بالصعود الصاعق لليسار مع انتصار محمد خاتمي «مجمع روحانيون» في الانتخابات الرئاسية السابعة سنة 1997م، ضمن الموج الإصلاحي الذي اكتسح الساحة على مدار ثماني سنوات، شهدت بدورها انحسار اليمين، لكن مع ثبات قاعدة ارتكاز القوى على ثنائية اليسار ــ اليمين، أو الإصلاحيين ــ الأصوليين، حتى مع التبدّل الجزئي في الخريطة الحزبية، ممثلة بإنشاء حزب «كارگزاران سازندگي» (كوادر البناء) كيمين معتدل، أو «جمعيت دفاع از ارزشهاى انقلاب اسلامى» (جمعية الدفاع عن قيم الثورة الإسلامية) بصفتها يسار اليسار، أو الانشقاق داخل الحركة الطالبية «دفتر تحكيم وحدت» وتوزّعه بين اليمين واليسار، أو بين الأصوليين والإصلاحيين، فجميع هذه المظاهر المتحرّكة والأسماء السيّالة القديمة والجديدة، لم تضرب مركز القطبية الثنائية الذي يقوم عليه المشهد السياسي برمّته.
الأصولية الجديدة
سأقف عند تأريخ نهاية حقبة خاتمي (1997 ـ 2005م) تاركاً حقبة محمود أحمدي نجاد (2005 ـ 2013م) ومن بعده حسن روحاني (منذ 2013م للآن) لسببين اثنين:
الأول: إن انقسامات عميقة شهدها اليمين الأصولي (واليسار الإصلاحي إلى حدّ ما) ربما تدفعنا إلى إعادة النظر بمفهوم القطبية الثنائية، وفي ما إذا كان ما زال هذا المفهوم بمقدوره أن يعطينا تفسيراً لخريطة القوى السياسية، وأن يبقى بمنزلة المرتكز لها، كما كان شأنه في السابق؟.
الثاني: حتى لو تخطينا الانشقاقات العميقة في صفوف اليمين وما هو أقلّ منها في اليسار، وبقينا متمسّكين بالقطبية الثنائية، وقراءة المشهد ارتكازياً على أساس اليسار ــ اليمين، أو الإصلاحيين ــ الأصوليين، فإن متغيّراً ما حصل في تطوّرات الساحة الإيرانية إبّان العقد الأخير، يسمح لنا بالادّعاء بأن تغييراً جذرياً قد حصل في الماهية والجوهر (وليس في الأعراض والمظاهر وحدها) لرؤية مرتكز جديد لخريطة القوى، بحيث باتت ترتكز إلى مرجعية أو قطبية ثلاثية وليست ثنائية؛ أيضاً ليس بسبب إضافة المستقلين وبعض القوى القديمة أو الناشئة تحت عنوان الخطّ الثالث، كما فعل بعض الدارسين، وإنما بسبب انخراط جبهة العسكر وطموحاتها الكبيرة والمتسارعة داخل الساحة السياسية الإيرانية، هذه الجبهة التي يمكن أن تعيد رسم مستقبل إيران على خيارات جديدة، لعقود من الزمن.
 
الحواضن الكبرى
عادة ما تتحدّث قوى اليمين الأصولي عن «الجامعتين» (المقصود بهما: جماعة العلماء في طهران، وجماعة مدرسي الحوزة العلمية في قم) كإطار مرجعي لعملها السياسي، ومظلة فقهية تمنحها الحجية الشرعية في ممارسة دورها، وأبوّة معنوية تحشد من خلالها الملايين؛ هكذا كان أمرها وهكذا فعلت ولا تزال، لكن بإضافة مرجعية رمزية ثالثة، كان لها الأثر الفاعل الكبير منذ لحظة أحمدي نجاد حتى الآن، متمثلة بالشيخ محمد تقي مصباح يزدي (1935 ـ 2021م) وواجهته التنظيمية «جبهه بايدارى انقلاب اسلامى» (جبهة الثبات على الثورة الإسلامية، أو جبهة الصمود) بالإضافة إلى بقية واجهاته والمؤسّسات العلمية والمعرفية والدعوية، التي سبقت هذه الواجهة بزمن بعيد.
بهذا الايجاز يمكن أن نحدّد ولو إجمالاً، الحواضن الثلاث التالية لليمين الأصولي، وواجهاته التابعة له والقوى المؤتلفة معه، هي:
1ـ جماعة العلماء المجاهدين في طهران “جامعة روحانيت مبارز تهران”.
2ـ جماعة مدرسي الحوزة العلمية في قم “جامعة مدرسين حوزه علميه قم”.
3ـ محمد تقي مصباح يزدي، والمؤسّسات والواجهات التي ترتبط به وتدين له بالتبعية والولاء.
مع أن لمصباح يزدي حضوراً في «الجامعتين» ودوراً مميّزاً فيهما ولاسيّما «جامعة مدرسين» إلا أننا وضعناه في نقطة مستقلة، لخصوصية دوره، وتميّز مكانته، وتأثيراته الخاصة في المشهد السياسي برمته، وليس الانتخابات وحدها.
بهذا الوصف تكون جبهة اليمين الأصولي قد استقرّت الآن على محاور ثلاثة، تنطلق منها صوب معركة الانتخابات الرئاسية المرتقبة في حزيران القادم، هي باختصار شديد:
المحور الأول: اللجنة العليا لاتحاد الأصوليين (شوراى وحدت). وهذا المحور الذي نصّب وزير الخارجية الأسبق منوجهر متقي متحدّثاً باسمه، هو أقرب إلى اليمين التقليدي المتمثّل بجماعة العلماء (روحانيت) ويمكن أن يتفق على مرشح تسوية مثل علي لاريجاني، بل وحتى علي مطهري.
المحور الثاني: اللجنة العليا لائتلاف الأصوليين (شوراي ائتلاف) الذي يترأسه حداد عادل، وهو يطمح للترشيح للرئاسة، وإذا تعذّر عليه ذلك يفكر بتقديم رئيس المجلس الحالي محمد باقر قاليباف، وطموحه الأعلى هو إقناع رئيس القوّة القضائية إبراهيم رئيسي بالترشيح.
المحور الثالث: وتمثله جبهة الثبات والصمود (جبهه بايدارى) التي ترتبط مرجعياً بالراحل الشيخ محمد تقي مصباح يزدي، ومتشابكة عضوياً وحركياً مع الرئيس السابق أحمدي نجاد وحلقته المقرّبة. وهذا المحور يفكر بالأمين العام الأسبق لمجلس الأمن الوطني سعيد جليلي، أو بمرشح بديل يتكتّم عليه حتى اللحظة.
لا تعبّر هذه المحاور عن وحدة منسجمة للقوى الفاعلة في خريطة اليمين الأصولي، بقدر ما تعبّر عن الاختلاف والصراع الذي قد ينتهي بفشلها في دخول القصر الرئاسي بباستور.