ما أدى حسب نظريته إلى انحلالها ومن ثم انهيارها، مقررا أن عمرها لا يتجاوز مئة وعشرين عاما بعد أن مرت بحلقة تغير اجتماعي أو مراحل متعاقبة، إلا ان قراءة معاصرة للفكر الاقتصادي الخلدوني، نجد إبعادا أعمق من ذلك، لاسيما إذا تكلمنا عن أهمية الأبعاد النظرية الاقتصادية التي أرست قواعد السلوك الاقتصادي والتي سبقت أفكار علماء الاجتماع الغربيين وأبرزهم ادم سميث وكارل ماركس وغيرهما.
ولعل أهم أفكار ابن خلدون، دعوته إلى عدم تدخل الدولة واعتبر أن انهيار الدولة هو التسلط على موارد الناس المادية وإجبارهم على شراء ممتلكاتهم بثمن بخس، وازدياد الضرائب ويذكر ابن خلدون في هذا الصدد انه يقع الخراب بالظلم والاستيلاء على أموال الناس، وأن ذلك يتم بمبررات واهية لفرض الضرائب التي يسميها (الباطلة والوظائف المحرمة) وتحميل الناس أعمال فوق طاقتهم وإجبارهم على العمل ما يجعل ذلك بمثابة سرقة قيمة عملهم، وتزاد أهمية ذلك حينما تنمو المدن في ظل تراجعها الحضاري، وارتفاع حالات الفقر
فيها.
لقد أسهم ابن خلدون في اكتشاف قوانين اقتصادية طبقا للشرع الإسلامي، سبق بها علماء الغرب، مشيرا إلى أهمية التنمية الاقتصادية في تطور المجتمع الإنساني مبرزا أهمية القانون في ضبط سلوك الإنسان في تعاملاته الاقتصادية، أو كما يرى بيان الحق وفرزه عن
الباطل.
وتبرز أهمية هذه الفكرة أيضا عند قراءة أفكار ابن خلدون الاقتصادية ومساهمتها في تقدم الدراسات الاقتصادية، إذ شكلت أفكاره تلك أهمية كبيرة في قيام الدولة حتى تصل إلى طور الإسراف المادي الذي يغيب فيه إي اتجاه نحو الاستثمار، مع تنامي ظاهرة الاستهلاك المظهري بشكل كبير -حسب رأيه- ما ينذر بانهيار الدولة، مع الأخذ بنظر الاعتبار فهم الفروق بين الدولة الحديثة، وتلك التي تكلم عنها ابن خلدون، وتوقع انهيارها نتيجة تسخير الأموال في البذخ والإسراف ما قد يؤدي ذلك إلى انهيار تلك الدولة.
وفي هذا السياق ينبغي عند مقارنة ذلك مع الدولة الصناعية الحديثة، والتي تكلم عنها اقتصاديو وعلماء اجتماع الغرب، أن نأخذ بنظر الاعتبار نمط الإنتاج الصناعي الذي تحركه الطاقة الحديثة من كهرباء ونفط وغاز، فضلا عما بات يعرف بالطاقة النظيفة، والشيء الممكن أن نضعه في الاعتبار في فضل أفكار ابن خلدون تلك المنطلقات النظرية لعلم الاجتماع الاقتصادي وتفسيره لسلوك الإنسان الاقتصادي، وحاجة هذا الإنسان الماسة للقيم الأخلاقية لإثبات إنسانيته وتفاعله القائم على أساس صون كرامته والاعتراف
بحقوقه.
ولاشك أن الفكر الغربي الحديث قدم أيضا نظريات اقتصادية في ظل عصر جديد( الصناعة) في ظل تنامي سكاني لم يسبق له مثيل بعد أن نجح الإنسان الحديث في القضاء على كثير من الأمراض واكتشف وسائط نقل سريعة أوصلته إلى بقاع الأرض المختلفة، مع تنامي إنتاج تكنولوجي مذهل، ولاشك أن الفكر الاقتصادي الرأسمالي هو غير الفكر الاقتصادي الاشتراكي، إلا أن حتى النظريات العلمية سواء هنا أو هناك إنما هي تحاول رسم ملامح اقتصاد يعكس الأيديولوجية السائدة في كلاهما، ومن هنا فان المجتمع العراقي بحاجة إلى تضافر الجهود العلمية لبلورة رؤية اقتصادية تنطلق من الواقع الاجتماعي والثقافي حتى يكون العمل في هذا الميدان يأخذ بنظر الاعتبار القيم الأخلاقية للمجتمع، من اجل الحفاظ على أصلاته الثقافية مع الانطلاق به نحو الحداثة المعرفية.
أن القيام بدراسات اقتصادية حول واقع الاقتصاد العراقي ينبغي أن يتم على وفق التحديات الآنية التي يواجهها الإنسان، بالاستفادة من تجارب المجتمعات التي مرت بأزمات، إذا ما تحقق ذلك فنكون قد حقننا أهداف الإنسان العراقي في تحقيق هويته الوطنية دون الوقوع في منزلاقات الاقتصاد الذي نما في ظل ايديولوجيا اشتراكية أو الوقوع في اقتصاد يقود إلى تقديم الربح على قيم الإنسان
وكرامته.
لذا فالدعوة تبقى قائمة للمختصين بتقديم دراسات عن واقع المجتمع الاقتصادي والثقافي وكشف مشكلاته حتى يتسنى للدول وضع خططها التنموية على أسس متينة لبناء اقتصاد عراقي منتج وينقل المجتمع إلى مرحلة معدلات النمو الاقتصادي السريع، جاعلا منه أنموذجا وطنيا يحتذى
به.