الاستخبارات وتعزيز مرتكزات الأمن القومي

آراء 2021/03/30
...

  د. سيف الدين زمان الدراجي 

تُركز الدراسات الدولية المتعلقة بتقييم عناصر القوة الوطنية – الدبلوماسية والمعلوماتية والعسكرية والاقتصادية – على وضع أُطر عامة لفهم أوسع لدور الاستخبارات في تعزيز مرتكزات الأمن القومي وقدرتها على الاستجابة للظروف الطارئة ومواجهة التحديات، من خلال أنشطة أجهزتها المتخصصة بجمع المعلومات وتحليلها وتقدير المواقف وإعاقة الانشطة الاستخبارية المعادية، اضافة الى شكل العلاقة مع القيادة السياسية وتطبيق القانون.
يحظى المجتمع الاستخباري بأهمية كبيرة، نظراً للدور الذي يلعبه في رفد رئيس السلطة التنفيذية ومجلس أمن الدولة القومي/ الوطني بالمعلومات الضرورية اللازمة لاتخاذ القرارات الحاسمة والحساسة على مختلف الصعد السياسية والاقتصادية والمعلوماتية والعسكرية والاجتماعية وغيرها.
ضمن هذا الإطار ومن أجل القيام بالواجبات والمهام المُناطة بها، توفر الدول ميزانيات ضخمة لأجهزتها الاستخبارية. فعلى سبيل المثال لا الحصر، خصصت الولايات المتحدة الاميركية ما يقارب 86 مليار دولار لمؤسساتها الاستخبارية من قيمة موازنتها الدفاعية البالغة 738 مليار دولار.
إن العمل الاستخباري عمل مكلف، قد لا يمكن رؤية نتائجه على المدى المنظور، او قد يتعذر الافصاح عنه نتيجة لحساسيته وارتباطه الوثيق بقضايا الامن الوطني/ القومي، الا أنه ضروري لبلورة رؤى ومواقف ذات أهمية قصوى لمواجهة التحديات والتحذير من التهديدات واستثمار الفرص وحماية أمن الوطن والمواطن داخل البلد وخارجه.
يشهد المجتمع الاستخباري العالمي تنافساً شديداً، لاسيما ضمن نطاق العلاقات بين الدول العظمى والقوى الناشئة أو الصاعدة، فبعد أن كان التنافس عسكرياً شابته العديد من العمليات السرية إبان فترة الصراع بين قطبين رئيسين هما الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، اتخذ شكل الصراع منحىً آخر في ظل نظام عالمي متعدد القطبية ليشمل أبعادا أخرى أهمها البعدان الاستخباري الاقتصادي والسيبراني، في معركة يلعب مفهوم الذكاء الاصطناعي دورا أساسياً فيه، لفرض الهيمنة والتفوق وتعزيز مرتكزات الامن القومي للدول. مثال ذلك الصين والولايات المتحدة الاميركية.
ضمن هذا السياق، تسعى الدول الى تعزيز شراكاتها الاستخبارية، بالشكل الذي يضمن لها تميزها في قراءة الاحداث واستباق المواقف. وما تحالف العيون الخمس Five eyes لكل من الدول الناطقة باللغة الانكليزية – الولايات المتحدة، المملكة المتحدة، نيوزيلندا، أستراليا وكندا- الا مثال على شكل هذا التعاون الذي تقوده دول لمواجهة دول أخرى.
لابد أن يقدم المجتمع الاستخباري دعماً أساسياً لستراتيجيات الامن الوطني/ القومي، وفق الاولويات المُعدة وبشكل مُتسق مع بنود الدستور والقوانين المعمول بها، مع مراعاة الدور الرقابي من قبل السلطة التشريعية.
إن للمجتمع الاستخباري مهام أساسية ثلاث، تتمثل بـ:
1 - فهم قضايا الأمن القومي/ الوطني وتحديد الفرص والتحديات والتهديدات.
2 - التقدير الاستباقي والكشف عن المشكلات وتحليلها وتقديم المشورة وخيارات الرد ليتسنى للقيادة السياسية اتخاذ المواقف المناسبة.
3- دعم العمليات الاستخبارية وديمومتها والحفاظ على سريتها وسلامة عناصرها بما يخدم الاهداف المرسومة لها.
وفي سبيل تحقيق ذلك فإن للاستخبارات مصادر ستة، نوجزها بالاتي:
1 - استخبارات الاشارة SIGINT: وهي عملية جمع المعلومات الاستخبارية عن طريق اعتراض الاشارات والاتصالات الصادرة عن القوى المعادية.
2 - استخبارات الصور IMINT : وهي عملية جمع المعلومات عن طريق تحليل الصور المأخوذة عبر صور الاقمار الصناعية او التصوير الجوي.
3 - الاستخبارات البشرية HUMINT: وهي عملية جمع المعلومات بواسطة مصادر بشرية باستخدام طرق التجسس السرية.
4 - استخبارات المصادر المفتوحة OSINT: وهي عملية جمع المعلومات من مواقع الانترنت ومواقع التواصل الاجتماعي والصحف والمجلات وقواعد البيانات التجارية.
5 - استخبارات القياس والتوقيع MASINT: او ما يطلق عليها (استخبارات الخصائص المميزة) وهي عملية جمع المعلومات من خلال تحليل الخصائص المميزة للمواد، مثال ذلك التركيب الكيميائي لعينات الماء والهواء، والتوقيعات الرادارية او الترددات الراديوية لانظمة الصواريخ والطائرات من خلال مسارات طاقاتها الحرارية او الكهروضوئية او النووية او الجيو فيزيائية. وقد تستخدم لهذا الغرض أشعة الليزر والاشعة تحت الحمراء لتوجيه أجهزة الأستشعار للمواد المطلوب تتبعها.
6 - الاستخبارات الجيومكانية GEOINT: وهي عملية جمع المعلومات باستخدام وتحليل الصور والمعطيات الجغرافية المكانية، التي تصف وتقيم الخصائص والنشاطات في و/أو على الارض.
على الرغم من أهمية التعاون الايجابي والفعال بين وكالات مجتمع الاستخبارات المختلفة، الا ان ذلك لم يقف حائلاً دون وجود تنافس داخل المجتمع ذاته. الامر الذي قد يلقي بظلاله بشكل سلبي على طبيعة تعاطي الوكالات المختلفة مع قضايا الأمن بشكل عام، فقد تكون الرغبة في الحصول على الفضل وإبراز التفوق المهني وتحقيق الانجاز لوكالة على حساب الاخرى احد أسباب الاخفاقات، التي عانت منها الدول وفي مواقف عدة، حيث أشار الكاتب مارك ريبلينك في كتابه " أسفين: الحرب السرية بين وكالة المخابرات المركزية CIA ومكتب التحقيقات الفيدرالية FBI" الى سبب الاخفاقات الكبيرة التي حصلت نتيجة لضعف التعاون بين هاتين الوكالتين الاستخباريتين المهمتين على الامن القومي للولايات المتحدة، والمتمثلة باغتيال الرئيس كينيدي وأحداث 11 سيتمبر 2001.
لقد أدركت الدول أهمية وجود جسم استخباري يضم تحت مظلته أجهزة الاستخبارات المختلفة، وهو ما حصل بإنشاء مكتب الاستخبارات الاميركية الوطنية DNI حيث يشرف على 16 وكالة استخبارية اميركية تعمل بشكل منفصل لدعم السياسة الخارجية والامن القومي للولايات المتحدة، كذلك الحال بالنسبة لمنظمة الاستخبارات البريطانية المشتركة JIO . بخلاف دول أخرى كروسيا والصين والتي تفضل أن يستمر عمل كل جهاز استخباري بشكل منفصل.
إن تعزيز عناصر القوة الوطنية لاسيما ما يعتمد منها بالاساس على انظمة المعلومات وشبكاتها الاساسية والتي تلعب الاستخبارات دوراً محورياً فيه، هي أحد المهام الاساسية اللازمة لتوفير الطاقات والامكانيات اللازمة لتنفيذ الاهداف الستراتيجية لحفظ الامن الداخلي للدول وتعزيز مرتكزات امنها القومي.