علي المرهج
أن تجيد الكتابة في التعبير عن خلجات نفسك الزكية أو المريضة، فهذه أشكال من الكتابة يُعبر بها الناس العاديون عما تضمره نفوسهم من خلجات، وللمخبولين الذين لا يعرفون أنهم مخبولون الكتابة للتعبير عن مكامن جنونهم في هذا الفضاء التواصلي العام، ولا يعد وصفي وتصنيفي لمن يكتبون، بأن بعضهم مخبول ولا يعرف أنه مخبول، ولا يُجيد كتابة جملة راكزة، ولكن آخرين مخبولين مثله لا يعرفون أنهم مخبولون، ومخبول يمتدح مخبولا في فضاء مجنون، فذلك واقع متحقق.
فلا تأسف لأنك تُجيد الكتابة وفق مقتضيات التنقل عقلانياً كي تكسب وعيك قبل أن ترتجي كسب وعي المتلقين.
لا تبتئس لأن غيرك كتب جملة قبيحة فوجد أنها حصدت آلافا إن لم تكن ملايين المشاهدات والقراءة، فثق أن السباب كتابة أو شفاهاً بأقذع الألفاظ سيجعلك من المشاهير.
ما أقصده بـ “معنى الكتابة” هو بمثابة “معنى الجمال”، فلا يليق بالجمال السباب، ولا يليق بالكتابة (الكتابة) سوى أنها رديفة لمعنى الجمال.
لا عليك حينما تجد التعبير القبيح يجد له موقعاً فيما يُسمى اليوم (بلاغة الجمهور).
أن يُجيد الجمهور أو بعضه السباب أو استعمال ألفاظ رخيصة بحكم تدهور الدولة والذوق العام، فلا أظن أن هذا يُحسب على البلاغة، لأن من مقتضيات البلاغة ـ كما أحسب ـ هو التعبير الجمالي عن آلامنا وتحديات الحياة لنا، لا أن نستخدم أقذع الألفاظ، فنعدَّها من أشكال التعبير البلاغي!.
(بلاغة الجمهور) تعبير عن حجم (الرثاثة) والألم التي تعيشها طبقة (البروليتاريا) بعبارة ماركسية، فمن حجم الألم والمعاناة نعرف ما يقصده بعض الأكاديميين بـ (بلاغة الجمهور)، ولكنها ليست بلاغة جمالية كما عرفنا عن البلاغة ومعناها في اللغة العربية، لأنها بلاغة بحجم الألم والمعاناة المجتمعية في أوساط مجتمعية عانت من هيمنة (البلاغة التقليدية) ورجالتها في اللغة والأدب الذين يسيرون مع النسق ولا يخالفونه.
لأعود للكتابة، فلا كتابة في الثقافة العربية يُعترف بها تخترق النسق التقليدي في الشعر أو في السرد القصصي أو الروائي الذي ورثناه، وجنون الكتابة لا يستسيغه سوى من تخلص من سطوة النسقية في الشعر والسرد، والنهايات السعيدة في القصة والرواية.
وحي الكتابة الحرة نجده في حضرة الفيلسوف (نيتشه) الذي يصنع بلاغته المتفردة خارج (بلاغة الجمهور)، فهو (السوبرمان) الذي يصنع القيم ويؤمن بأن الإنسان (السوبرمان) هو القادر على خرق (بلاغة الجمور) وقيمه ليصنع قيماً جديدة.
لا يسير الجمهور وفق وعي عقلاني نقدي، إنما يسير وفق مفهوم (الحس المشترك) الذي لا إمكانية لفرد فيه على تغيير مسار (بلاغة الجمهور) لأنها بلاغة نسقية مقولبة، لا سعيا جادا عند جماعاتها لقلب موازين المعرفة المتوارثة، فهي تورث التقاليد وتبنيها وتؤسس لها شعائر وتمؤسس هذه الشعائر، ولا يجد العقل الحر محطة ولا منفذا للخلاص من (بلاغة الجمهور)، وغلبة الطقوسية والشعائرية على مقبولية العقلانية النقدية وحرية التفكير.
في عوالم الكتابة المُنتجة نبحث عمن يكتب تاريخه خارج (بلاغة الجمهور) وسطوة هذه البلاغة، فهو يكتب تاريخ الحرية، ولا يكتب تاريخ الجماعة ليبقى أسير أطرها الفكرية المغلقة.
الكتابة الإبداعية هي التي تخلق أفقاً جديداً للوعي الاجتماعي خارج تهويمات الجماعة و “سيكولوجيا الجماهير” المحمومة بقيم الانتماء الموافقة لأيديولوجيتها والدفاع عنها، أو بقيم الرفض لأيديولوجيا الفكر المغاير.
الكتابة ضرب من ضروب المعرفة الجمالية التي يُحيد فيها الكاتب المبدع أطراف الصراع ليكونوا مُتفقين على إبداعه خارج تهويمات القناعة التي تؤسسها ما تُسمى بـ (بلاغة الجمهور) التي لا أستثنيها من الحدث وصناعته، ولكنني أستثنيها من الوعي وبنائه.