الاستبداد وخضوع المفاهيم

آراء 2021/04/12
...

   د.عدنان صبيح 

من يريد التحدث عن مفاهيم الدولة والهوية والوطنية والسيادة، فانه لا يواجه الصعوبة، التي يواجهها عندما يساءل الجمهور عن تلك المفاهيم، لأنها ممكن أن تجد لها طريقا خطابيا في سياقات خطابات الزعامات ورجالات الحكم. لكن الصعوبة تكمن في ان تبحث عن تلك المفاهيم داخل المجتمع، لأننا نقع أمام تساؤلات عدة أهمها:
هل المجتمع يعرف تلك المفاهيم؟ الحقيقة علميا لا يتطلب من المجتمع ان يعرف المفهوم اصطلاحيا، لكن المشكلة تكمن في ان عمليات التحليل والاستقراء تقودنا الى نتيجة مخالفة، لما يتم طرحه في الاوساط الاكاديمية والنخب الثقافية منها والسياسية.
بمعنى اننا نعتقد ربما على المستوى السياسي بأن المجتمع يتعاطى مع مفردات تتعلق بالهوية الوطنية، او السيادة، او الدولة، او العقد الاجتماعي، ويحمل مع تلك المفردات همّا مجتمعيا، ويسعى الى تطبيقها اوالحيلولة دون تراجعها. 
 لكن بالمقابل لم نعمل ما يعزز تلك المفهومات لا على المستوى الخطابي ولا على المستوى التطبيقي، أي ان تلك المفاهيم حتى تتعزز تحتاج الى ذاكرة مجتمعية لتعزيزها وهذه الذاكرة تحتاج الى ممارسات من الدولة واهتمام واجراءات. ويجب ان تكون تلك الذاكرة قائمة على المشتركات، وتشمل اكبر عدد ممكن من الشعب، اي انها لا تخص جماعة من دون غيرها، فضلا عن ارتباطها برمزيات تحمل كما من المشاعر الجماعية وهي جزء اساسي منها.
ووفق تلك المعطيات نبحث عن محطة من المحطات العراقية تحمل ذاكرة، ممكن أن تكون مصدر توحيد للجميع، وترتبط مشاعرهم بها وهنا يكون التسائل، هل عملنا على انتاج ذاكرة؟ الذاكرة تلتئم وتتكون في المآسي والمحن والحروب والاضطهادات، التي تتعرض لها الشعوب، لكن بالمقابل تعمل الحكومات والمؤسسات المجتمعية على تفعيل تلك الذاكرة، لكي ترسخها من جانب وتكون مهيأة للتفعيل بصورة مستمرة من جانب اخر.
مثلا عمل النظام البعثي كثيرا على انتاج الذاكرة (لكن ذاكرة خاصة به، وهي تتماشى مع الايديولوجيا التي يؤمن ويسير نحوها، فكانت تلك الذاكرة (كما ينظر لها دافيز في كتابه مذكرات دولة) (هوالاستفادة من اموال النفط وتخصيص جزء منها في الجانب الثقافي الذي يعمل على انتاج ذاكرة) فكانت المفردات الخاصة بالبعث تدخل مع الطالب في الابتدائية، وهو لا يعرف شيئا بعد, يواجه بنشيد وخطاب واطلاقات نارية ترافق رفع العلم، بمجرد دخوله في اول فعالية في المدرسة وهو الاصطفاف الصباحي.
ثم يدخل الى الصف فيجد صورة الطاغية بوجهه، وكل قيام وجلوس يتردد على لسانه. يدرس الوطنية، ويعود الى البيت يجد صور المعركة وخطاب الرئيس والفعاليات ثقافية، والنصب الموجودة في الشارع، وبالتالي ومن خلال تلك الممارسات، عمل على انتاج ذاكرة لذلك الشعب لجميع الاعمار والفئات، من خلال الفعاليات الثقافية، والمؤلفات والمنهاج والنُصب الموجودة في كل مكان. بالمقابل بعد 2003، هل استفدنا من هذه التجربة؟ هل عندما رفعنا نصبا معينا ابدلناه بنصب معبرة اكثر؟ هل صنعنا رموزا؟ ممكن أن تكون مصدر الهام للهوية الاجتماعية، اوالهوية الوطنية.
 الحرب على عصابات داعش الارهابية مثلا، كانت بوابة مهمة للتعبير عن الهوية الوطنية العراقية، والتي تحمل في طياتها عددا من المفاهيم التي من الممكن العمل عليها مثل مفهوم السيادة، ومفهوم الهوية الوطنية، ومفهوم الدفاع عن الارض، ومفهوم الشجاعة العراقية، ومفهوم الظلم الذي تعرض له العراقيون، ومفاهيم اخرى، لكن الواقع يقول بأننا اهملنا تلك المفاهيم كما أهملنا غيرها.
 قضية الخروج من الاقتتال الطائفي، الذي عانت منه كل المناطق العراقية، هل يوجد يوم يحتفل فيه العراقيون بمناسبة الخروج اوالتخلص من الاقتتال الطائفي؟ وهل يعرف العراقيون لحظة انتهاء تلك المرحلة؟.
 لحظة 2003 كانت لحظة مهمة، بل هي من أهم اللحظات للعراقيين، كونها جاءت من الخارج، كان من الصعوبة ان تكون مصدراً للتعبير عمّا يريده المجتمع، لكننا لم نجد طريقا ممكن ان يوحد العراقيين من خلالها، وتكون تلك اللحظة مهمة للجميع.
ومن يريد ان يعرف من هوالمسؤول الاول عن تعزيز تلك المفاهيم، فان الاجابة واضحة، هي الدولة بزعاماتها ومن ثم مؤسساتها هي المسؤولة على الانتاج والترويج وتعزيز تلك المفاهيم. 
 يبدو أن هناك اعتقادا مستمرا بان تلك المفاهيم لا تصلح للترويج الانتخابي، ولكون اغلب القادة يفكرون بالترويج الانتخابي، فإن مفاهيم الهوية الوطنية والسيادة، ومفاهيم تجتمع عليها الناس لم تكن عملة قابلة للترويج. 
ويفشل الترويج لتلك المفاهيم لأنه لم يعط المعنى الواضح، الذي يمكن ان يروج للجمهور، وغالبا ما تكون تلك المفاهيم مطاطية، وتتذيل خطابه من دون أن ترتبط باي سياقات، وتكون ذات مساحة كبيرة يستطيع السير من خلالها لأنه يعرف بأن خطابه متغير نتيجة لمصلحة معينة، فلا يريد ان يحرج نفسه امام جمهوره، بتغيير خطابه، فيعمل على تعميم المفردات أو جعلها تسير في مساحة كبيرة، وباختصار إن رجل السياسة في العراق يتحول بحسب مقتضيات الوضع الداخلي والخارجي.
أما في ما يتعلق بقضية التغيير، فنورد ما يقوله الانثروبولوجي الفرنسي (جلبير دوران) إن الرمزيات التي تتحكم في المجتمع ( هي رمزيات المحارب، والكاهن، والفلاح)، مرة تصعد اسهم رجل الدين، ومرة المحارب، واخرى الفلاح. بحسب الظروف المحيطة والتطورات المحلية والخارجية، يقابله استثمار الرمزية الصاعدة في القضايا الاجتماعية والاقتصادية والسياسية .
 في العراق يكون السياسي رجل دين وخطابه كرجل دين، ومن ثم يتعامل مع ملفات الحدود والسيادة والهوية (الذات والاخر)، بطريقة معينة، ثم بعد ذلك يصبح محارباً فيغير خطابه، فالذات والآخر عند رجل الدين في الحديث عن الهوية،، تختلف عن الهوية والارض التي يتحدث بها المحارب، ولذلك هو يعرف نفسه بأنه سيتغير، وبالتالي فإن افضل طريقة لمنع التناقضات هو اللجوء الى الخطابات، التي لا تحدد صديقا من عدو، ولا تصنع مسطرة تسمح للجمهور الوقوف عندها والتفكير لوحدهم، هو يقرر عنهم، وهو من سيحدد في خطاب لاحق من سيحب ومن سيكره. 
فهي تشبه الرواية الرائعة والتي تفسر لنا كثيرا من المنبهات الاجتماعية السياسية (رائعة جورج اوريل مزرعة الحيوانات) والتي كانت هناك فئة معينة من الحيوانات، بدأت تعترض على ممارسات من كتب وثيقة اودستور المزرعة كونه خالف بنودها، تكون الاجابة في أن المشكلة في انكم لا تعرفون القراءة ولوعرفتم لقرأتموها بندا صريحا في الوثيقة، ولأنهم متأكدون بأن الاخرين لا يعرفون القراءة. ومن ثمَّ يصمت المعترض من دون، كونه لا يستطيع اثبات عكس ما يقولون، فتلك الممارسات الخطابية لم تصنع حاجزا بين الزعيم السياسي والجمهور فحسب؛ بل هي ابعدت الجمهور عن القرار السياسي، واحدثت فجوة بين المفاهيم وتفسيرها، ولذلك نختلف كثيراً ونصبح شعوباً فقط من اجل تفسير مفاهيم مثل السيادة والهوية 
الوطنية.