علي جرادات
التعليم هو المنظومة الأولى في ثالوث تقدم الشعوب والأمم، فمن خلاله يمكننا أن نعيد تشكيل حياتنا، ونذهب بعيداً في مجال تغيير واقعنا نحو الأفضل، فالتعليم ليس مجرّد منظومة معلوماتية،
مهمتها تقديم أطر متصلبة تصب في ذهن المتعلم وتنتهي على أوراق اختبارية لينتهي كل شيء عند تلك النقطة، بل التعليم في العمق، هو مسيرة تثوير للوعي والفكر والسلوك، لنستطيع كمجتمعات عربية أن نخلق منظومة معرفية نقدية تساؤلية، تخترق الحجب والجدارات التي تعصف بعالمنا العربي، وتجعله يضيع في ركام هائل من التخلف والانغلاق.
التعليم، هو ترسانة حياتية، لا تتمثل في منهاج تعليمي، أو كتاب يُقرأ وحسب، بل هو سلوك حياتي يجعلك تعيش حالة الاكتشاف الدائم، والبحث في أعماق المجهول، والتدرب اللامتناهي على ترقية حاسة الحياة والجمال والوعي فيك .
إنَّ امتلاكَ الوعي هو البوابة الكبرى نحو انطلاق الشعوب إلى عوالم النور والحرية، وهذه البوابة لا يمكنها أن تكون وتتخلق إلا بمنظومة تعليمية جادة، تُعلّم الطفل منذ لحظاته الدراسية الأولى أن يحلّقَ ويسافرَ في رحابِ البحث الدائم والدهشة الجمالية، عند ذلكَ سنجد لدينا أجيالاً مفتوحة الأعين على كل ما هو حضاري ومدهش .
إنَّ بناء الشعوبِ بشكل حقيقي لا يمكنه أن يتم إلا بإعادة نظر عميقة في منظوماتها التعليمية، فالتعليم هو المحور الأساس لبناء وعي قادرٍ على امتلاك أدواتِ النقد والبحث والإبداع . وشعوب لا تبدع ولا تبحث هي شعوب في عالم النسيان والغياب بالضرورة .
إننا في مجتمعاتنا العربية خاصة، نعاني بشكل حادّ من مرض الطائفية، والانغلاق الفكري، وعدم الانفتاح على الآخر، وهذه الأمراض أورثتنا الكثير من التشوهات الاجتماعية والفكرية، والتي كادت تعصف أحياناً ببعض البلدان العربية، ولتجاوز هذه المعضلات والمشكلات الضخمة في عالمنا العربي، لا بد لنا من تقديم منهاج تعليمي يقوم على التساؤل والانفتاح وتعزيز قيم الحياة والتشارك والتعايش .
والوعي في محصلته النهائية هو امتلاك حاسة نقدية تجاه كل ملامح التخلف والاستبداد والفقر والأمراض المجتمعية، من أجل الوصول إلى دول حضارية تؤمن بقيم التعدد والحياة والتقدم، والوعي هذا كما سبق لا يمكننا خلقه بعصا سحرية، بل هو مجهود تراكمي، يبدأ بالتعليم المدرسي، وصولاً إلى مجال الإعلام وغيرها من الوسائل المحورية في زرع أهمية التعليم ورفع الوعي لدى شعوبنا.
إن شعوباً متعلمة وواعية، هي شعوب مشبعة بالحياة بكل ما فيها من جمال ورقي وسمو، فمثل هذه الشعوب ستكون أبعد ما يكون عن الانغلاق والطائفية وتدمير سبل الجمال في دولها، وستعمل جاهدةً من أجل امتلاك حياة كلها تعايش وبناء وارتقاء، من تعزيز ثقافة المتاحف والمكتبات العامة والمسارح، إلى تشجير الأماكن العامة، والحرص على البنى التحتية للدولة، وهكذا سنجد من خلال تعليم حر وجاد شعوباً ستعمل بشكل عميق على إنارة الحياة بكل أشكال الجمال والسفر نحو أمجاد الحضارة والتقدم .
إنَّ التعليم في النهاية، بوابة شعوبنا نحو تحقيق حياة كلها حياة . فلا ارتقاء بلا وعي، ولا وعي بلا تعليم.
باحث وكاتب من فلسطين