أصابع مُحترقة

آراء 2021/04/14
...

   محمد الحداد
قطفت أميركا قصب السبق الأول بغرقها في بئرِ الخسائر لكثرةِ ما اصطادت من خيباتٍ وجراح وسط مستنقعٍ عالمي من الدماء صنعته بيديها طوال عقود، انتهى عصرُ الانفرادِ والصدارة في القيادة وحان أوان سحبِ الأصابعِ المحترقة والملدوغة ولعقها بكثيرٍ من الحسرةِ والندم.. تلك الأصابع التي تمددت كثيراً فوقَ الخرائط القريبة والبعيدة على السواء أيامَ استعراض الغرور والطيش والتهور المفرط، حينما كانت تلك الأصابع تصنع دولا فوق الخرائط وتحذف أخرى متى شاءت بلمسةٍ واحدة.
ربما بدتْ تلك الخسائر غير واضحة كثيراً للعيان، لكنها خسائرُ معنوية أكثر منها عسكرية أو اقتصادية لأنها تتعلقُ بالهيبةِ والقوةِ الأميركية مباشرةً، وستتيحُ لأولِ مرةٍ للآخرين أن يجرؤوا بالتشكيكِ جِهاراً بملامحِ الصورة الأميركية التي حرصتْ طويلاً على حفرها في المخيالِ الجمعي العالمي كله حتى وقتٍ قريب.
حدثَ ذلك مع ابتداءِ الحقبة الأوبامية تحديداً لكن المهم أنهُ لم ينتهِ حتى اليوم، تلك الحقبة التي قررتْ فيها أميركا التقهقرَ والانكفاءَ فجأةً وحاولتْ أن تقنعَ الأميركيين أن وقتَ العودة إلى الديارِ قد حان فبدأتْ بسحبِ ذيلها وأقفلت الأبوابَ والنوافذَ وحاولتْ أن تشغلَ نفسها باعادةِ ترتيب بيتها الداخلي مجدداً، لنتذكرَ فقط أن ذلكَ الانسحاب كان في حينهِ ورقة الحظ الأوبامية الرابحة في برنامجهِ الانتخابي التي ظلَّ يراهنُ عليها أمامَ منافسهِ ماكين، الأمرُ الذي مكّنهُ بالفعل من دخولِ البيت الأبيض ثمانية أعوام كاملة، لكنهُ كان أيضاً العصر الذي تدرّجَ فيهِ الفشلُ والضعفُ والانحدارُ الأميركي من انتهاجِ سياسة اقتلاعِ الخصوم كما حصلَ مع "نورييغا وماركوس وصدام" إلى مرحلةِ الاحتواء ثم المراقبة عن بُعد والتي انتهجتها مع كوريا الشمالية وايران وكوبا، وانتهاءً بمرحلةِ قيادة العالم من الخلف والذي كان بمثابةِ حضورٍ يشبهُ الغياب، تلتْ ذلكَ كلهُ أربعُ سنواتٍ من الجنونِ والطيشِ والتهريجِ الترامبي لم يفلحْ فيها في اعادةِ هيبة الصورة الأميركية القديمة أو انتاجِ صورةٍ مقاربةٍ لها.
لكن ثمة أسئلةً مهمة أسمعها تصهللُ الآنَ في رأسي بقوةٍ وهي: ماسرُّ ذلكَ الانكفاء الأميركي الأوبامي المفاجئ والغريب "ظاهرياً على الأقل"؟ لماذا حرصتْ أميركا على انتاجِ وتسويقِ انطباعٍ مُغايرٍ حاولتْ من خلالهِ أن تكسرَ رتابة الصورة النمطية التي وصمتْ بها الدولة الأولى في العالمِ كله؟ هل أرادت أميركا أن تقنعَ الجميعَ بأنها استيقظتْ لتجدَ نفسها فجأةً تشعرُ "في لحظةِ نُضجٍ تاريخيٍّ نادر" بمسؤوليتها الأخلاقية التي توجبُ عليها الاعتراف بأن عصراً جديداً ولدَ للتو باتتْ تتفهمُ فيهِ تماماً متغيراتِ التاريخ وصيروراته المتجددة؟
هل أرادتْ أن تمررَ إلى العالمِ أجمع بأن تغييراً جذرياً طرأ على قناعاتها تجاه الأسلوبِ الأمثلِ في قيادةِ العالم؟ بمعنى أنها باتتْ تفتقدُ أكثرَ من أيِّ وقتٍ مضى حاجتها إلى شركاءٍ أقوياء تسهمُ معهم بصناعةِ توازنٍ حقيقيٍّ وواقعي في إدارةِ أزماتِ العالم وصراعاتهِ الشائكة؟
حسناً، بعد اثارةِ كلّ تلك الأسئلة سنسمحُ لأنفسنا أن نسألَ السؤالَ الأخطر: لماذا وهي تفعلُ ذلكَ كلهُ بدتْ لنا وكأنها تعمدتْ أن تمررَ رسائلَ مزدوجة المعنى أصرّتْ على أن تصلَ للجميعِ بكاملِ غموضها وتناقضاتها والتباسها؟ مرةً توحي بالضعفِ والتخبط، 
ومرةً أخرى بالخداعِ والمَكر؟ تغضُّ طرفها عمداً عما تفعلهُ روسيا "غريمتها التاريخية" في المنطقة كي توهمَ الجميعَ بأنها مَنحتها حقاً حصرياً في مسكِ اللجام وتولّي زمام قيادة هذا الكوكب المجنون لأنها لم تعدْ قادرةً وحدها بالفعل على إدارةِ أزماته كالسابق، لكنها في الوقتِ ذاتهِ تتعمدُ أيضاً أن توحيَ للمشككينَ بضعفها بأنها تفعلُ ذلكَ بملءِ ارادتها كي تدفعَ بالروسِ لمستنقعِ استنزافٍ عميق جرّبتْ بنفسها الغرقَ فيهِ من قَبل كي لا يخرج الروسُ منهُ إلا وهم مثخنونَ بالجراحِ وملطخونَ بأوحالِ الهزائمِ والضعف.
في سوريا والعراق واليمن وغيرها على سبيل المثال كانت الرسالة الأميركية التي بعثتْ بها مبكراً واضحةً تماماً رغم أنها خرساء من أيةِ كلمات لكنها أكدتْ فيها أن توزيعَ الخسائرِ على الشركاءِ يمتصُّ بعضاً من مرارةِ الهزائمِ ويهوّنُ كثيراً من قسوةِ الانفرادِ الأميركي بكاملِ حصصها من الشعورِ بالجراحِ 
والآلام.
مَن يدري لعلها لعبة شراكة مزدوجة من ذلك النوعِ الذي يُمطرُ فيهِ الكبارُ الموتَ بالتساوي على جميعِ الأطرافِ المتصارعة وسط ساحة حربٍ مُستعرة ومفتوحة، وربما سيعيننا على فهمِ مسوغاتِ تلك اللعبة الجديدة أن جميعَ الذين سيحترقونَ بنيرانِ تلك الحروب بلا استثناء هم أعداءٌ مشتركون للأميركان والروس 
معاً!
بالمحصلة لنحاول أن نوجزَ ما فهمناهُ من ذلك كلهِ ببضعِ كلمات مختصرة نترجمُ من خلالها الفلسفة الأميركية الجديدة حولَ سرّ ذلك الانكفاءِ المفاجئ الغريب واشراك خصومها في تذوقِ مرارة الخسائر فنقول:
لا شيء يضاهي مُتعةَ حرمانِ الخصومِ من تذوقِ حلاوة النصرِ الا إشراكهم بتذوقِ مرارةِ الخسائر من البئرِ ذاته، فلربما في ذلكَ نشوة مُسكرة لاتخلو من طعمِ نصرٍ مضاعف أيضاً.
أما في المرآةِ المقابلة لذلك كلهِ فقد تلقفتْ روسيا تلكَ الهدية الأميركية الباهظة الثمن غير آبهةٍ بما يغلفها من شِراكٍ قاتلة ووقفتْ بكاملِ قيافتها الامبراطورية القديمة الجديدة، لتؤكدَ أنها أصبحتْ مؤهلةً تماماً لتسلمِ الوظيفة الجديدة، وأن بوسعها اليوم أكثر من أيِّ وقتٍ مضى تحمل تلك المسؤولية لأنهُ باتَ بمقدورها أن تشدَّ نحوها ذلكَ الوتر الذي أرختهُ اليدُ الأميركية شيئاً فشيئاً وأصبحتْ تستحقُ وحدها أن تتسلمَ بالفعلِ زمام قيادة العالم.