المدارس والجامعات العراقية والحاجة الى مناهج التنشئة الرقمية

علوم وتكنلوجيا 2021/05/24
...

  الدكتور صفد الشمري
 
هل اتجه العراق لإرساء أسس ستراتيجيات التعاطي مع الظاهرة الرقمية، التي أحكمت القبضة على جميع الممارسات اليوميَّة في العالم.. وهل أفاقت مؤسساتنا من {الصدمة الرقميَّة} التي خلّفتها جائحة كورونا، وكشفت عن واقع استخدامنا الرقمي {المفعم بالثغرات}، وأثبت الحاجة إلى تنمية مهاراتنا الرقميَّة بشكل عاجل، على وفق مناهج ما يعرفه العالم بالتنشئة الرقمية، التي صارت من أبرز عناصر التنئشة الاجتماعية، المسؤولة عن صياغة شخصية الفرد، وتهذيب ممارساته وتنمية مهاراته وأخلاقياته، ونظم علاقاته بمن حوله؟
 
التهذيب المفقود!
تُبدي مقولة تهذيب استخدامات العراقيين للإنترنت، تسليماً قاطعاً بأنَّ عدداً من مقومات ترشيد ممارسات تلك الاستخدامات متوافرة فعلاً، ولو بحدّها الأدنى في البيئة الاتصالية المحلية، إلا أنَّ في الوقوف على تباين دلالتي المفهومين المرتبطين بالممارسة والمهارة، ما يفرض ضرورة توصيف تلك البيئة على وفق النهج القويم، والتمكين من التوصية بمعالجات موضوعيَّة لفض إشكالياتها: بين الواقع والمأمول.. قدر تعلق الأمر بتعرض مستخدمينا لمضامين الأوعية الرقميَّة المختلفة، الذي ينبغي أنْ تؤسس لثقافاته المنظومة التعليميَّة والتربويَّة العراقيَّة بالدرجة الأساس!
وهو ما يتطلب إحداث مقاربة واقعيَّة بين ما يمكن الإفادة منه في مجال الاستخدام الرقمي، وبين ما يجري الإفادة منه واقعاً، نتاج تعرض تراكمي متصاعد للمحتوى الرقمي العراقي، كرّسته عوائد الجائحة التي فرضت التعليم الالكتروني في المدارس والجامعات العراقية أمراً واقعاً من دون إعداد أو تمهيد، امتد أثره لتعاملات الدولة والأفراد والمؤسسات جميعها الذي صار إلكترونياً بالمجمل، في ظل إجراءات التباعد الاجتماعي، في وقتٍ كان العالم بأسره قد قطع أشواطاً متقدمة في هذا المضمار، منذ سنوات خلت.
 
التوجيه الرشيد
يستدعي التعاطي مع مجتمع الشبكات وعوائده موضوعياً، أشبه ما يمكن تسميته بإعادة صياغة مؤسسية للفرد والدولة على وفق مسارين متوازيين، حين دخلت معطيات العوائد الرقمية يوميات الفرد وحيثيات الدولة، عبر استعمالات مهمة، غير التعليم الإلكتروني، على شاكلة: الحكومة الإلكترونية، والحرب الإلكترونية، والديمقراطية الافتراضية، والمواطنة الرقميَّة، والتجارة والتسوق الإلكترونيين، والتربية الإلكترونية، والمكتبات والجامعات الافتراضية، والكتاب الإلكتروني، والمؤتمر الإلكتروني، ونوادي الشبكات، وغيرها من المسميات المتعددة، التي وفّرت خدمات الحقيقة الافتراضيَّة.
لقد صارت للتقانات الرقمية الإسهامة الأكثر أثراً في تنمية المجتمعات وتحديثها، ولكي لا نبخس الناس أشياءها، فقد قطع العراق شوطاً مهماً في سبيل تحقيق ظروف الجاهزية الرقمية: من مُعدات التقنية، وبُناها التحتية المادية والفنية، بوصفها أحد المظاهر الرئيسة للتكنولوجيا.. إلا أنَّ إشكالياتنا مع مثل هذه الجاهزية لا تكمن في شيوع وسائطها وتداولها، وإنما في وظيفة استمعالاتها ودوافعها!
التكامل.. لم يجر التأسيس لقواعده الصحية في المجتمع العراقي بعد، بالرغم من حاجته لمثل هذه التنمية والتحديث وإقراره بذلك، لمرمى اجتماعي يرتبط بالعوّز التكنولوجي المرتبط إلى حدٍ ما بالجاهزية الإلكترونية اليوم، التي صيّرت من البسيطة المُستديرة مجرّة رقمية يتلازم في كينونتها الشيء بنقيضه، وبما هيّأ لما ينعته المختصون “بانبثاقة مجتمع الشبكات، أو لدافع فردي يتمثل في العزوف عن التعاطي مع تلك الجاهزية في حال أمست واقعة، تعنتاً أو عجزاً حداثوياً، أو قصوراً مؤسسياً في إعادة تنشئة الفرد على وفق معطيات الجاهزية الرقمية الحقيقية في الأداة والوظيفة، التي تصير بفقدان أيٍ من طرفيها، جاهزية منقوصة.
 
المواجهة الرقميَّة
إنَّ مواجهة الإشكاليات المرتبطة بالجاهزية الرقمية المنقوصة، تكون أشبه بركائز ديمومة المجتمعات الحدثية، عن طريق التحضير للبيئة الاجتماعية والنفسية والثقافية، الراعية لتعاملات مكوناتها البشرية والمؤسسية، مع مُستجدات تحديث المجتمعات التقليدية، بما فيها تطوير مهارات المنتفعين منها، وسلوكياتهم الوظيفية المتنوعة، بإعادة تنشئة تلك البيئة، على وفق مُستجدات التحديث ومتطلباته، الذي يقضي بعدم جواز تحديده في مجالات التحضير للبيئة التقنية فقط، ومديات الجاهزية الحاسوبية الإحصائية، ومعادلاتها الرياضية والنسبية، (من قبيل: عدد المنتفعين من تقانات الاتصال الحديثة، نسبة إلى جموع السكان، أو فئاتهم العمرية، أو الدراسية، أو الوظيفية، أو الجنسية.. وغير ذلك).
إذ يمسي نتاج تلك الإحصائيات منقوصاً، غير مكتمل الأبعاد، بالقياس إلى ضرورات الأخذ بنظر الاعتبار دوافع التعرض لتلك التقانات، واتجاهاته، ومجالاته، وتتصاعد ضرورات عد تلك الدوافع مؤشراً مهماً لتحري مجالات نموّها بالشكل الأنموذجي، من عدمه، مع توافر إحصائيات تؤكد بقوة أنَّ من أهم دوافع تعرض مستخدمي التقانات الإلكترونية العرب بشكل عام، لشبكة المعلومات الدولية، يرتبط بالحاجة إلى الهروب من مشكلات الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي والاقتصادي العربي، باتجاهي: التسلية، أو تفريغ التراكمات النفسية للأفراد، عن طريق المُساجلات الإلكترونية في إطار عدم الانتفاع من مديات الديمقراطية الافتراضية مثلاً.
لقد هيّأت هذه المُساجلات لظروف الفردنة، وسمو الذات الفردية، وشخصنة المواقف والأحداث، والتشدد نحو تلك الذات، واتجاهاتها، على حساب المصالح العامة، في وقت كان يُنتظر أنْ يُهيئ فيه انبثاق بوادر البيئة الإلكترونية المعلومات مجالاً واسعاً للتواصل الإيجابي، والانفتاح نحو الآخر، إلى جانب تنمية القدرات المعرفية للأفراد، وتطوير قابلياتهم، وتحديث مجتمعاتهم، وقد عاد ذلك بآثاره على تحديد مجالات الإفادة من القراءة الإلكترونية، وبما يتطلب حلولاً ناجحة لإعادة توظيف هذه المجالات وفقاً للسياقات النافعة.
التنشئة المطلوبة!
يبقى على القائمين بصياغة مرامي تحديث المجتمعات وتنميتها مسؤولية الولوج في نواحي الإعداد للبيئة الرقمية المتكاملة، وفي مقدمتها وزارات التربية، والتعليم العالي والبحث العلمي، والعلوم والتكنولوجيا، والاتصالات، وهيئة الاعلام والاتصالات، بغية الوقوف عند مديات جاهزيتنا الرقمية الحقيقية أولاً، ومناحي الإفادة من تلك الجاهزية على وفق النهج القويم ثانياً، بوصفها من المسلّمات التي تنأى بنفسها عن أي مسعى للنقض أو المناورة.
وإذا كان هناك من ينشغل حتى اليوم بضرورة التمييز بين مجتمع المعرفة، ومجتمع المعلومات، ويبنى أسس رؤاه من منطلق أنَّ الأول كان سابقاً للثاني بقرون خلت، فإنَّنا نجزم أنَّ مجتمع المعلومات، الذي هو في أساسه نتاج مجتمع الشبكات، يعزز من دواعي تحديث مجتمعات المعرفة، وإعادة تكوينها على وفق مستجدات البيئة الرقمية، ذلك أنَّ المعرفة اعتمدت التواصل في صيرورتها ومن ثم تداول مضامينها وتناقحها، وأنَّ سمة التواصل الحديث تعود بنا إلى ضرورة التزام قواعد البيئة المُستجدة، لتعزيز المعرفة.
هذا كله، يظهر الحاجة الملحة للحاق بالظاهرة الرقمية والتعامل مع معطياتها بواقعية، وأنْ يجري الإعداد لتنشئة رقمية قويمة، تنمّي مهارات التعرض الإلكتروني، بالاتجاه الصحيح، وبما يُسهم في تعديل سلوكيات المستخدمين المختصة بتلقي المضامين ومعالجتها، والتعاطي معها في معادلة فكرية - ثقافية منهجية معتدلة.
 
إسعاف التنشئة!
إنَّ مثل هكذا تنشئة، تتطلب منظومة مؤسسية أخلاقية راعية وواعية لبواعث الحرية ومحددات التنظيم، وتهدف إلى التعاطي الرشيد مع الجاهزية الرقمية، ومن هنا نوصي باعتماد المناهج الدراسية في التنشئة الرقمية في المراحل الابتدائية والثانوية والجامعية، في التخصصات كلها، شأنها شأن المواد المرتبطة بالتربية الأخلاقية والأسرية والفنية والرياضية وأخلاقيات المهنة، تهدف إلى تنمية مهارات الاستخدام الرقمي الوظيفي السليم، وهي تختلف بالتأكيد عن مواد مبادئ الحاسوب، التي صارت في اغلب حالاتها أبجديات، فاقت مستوى مهارات التلميذ أو الطالب العديد من مفرداتها ومستويات القائمين على تدريسها، بحكم الاستخدام الرقمي اليومي من قبل الأطفال والشباب، على الألعاب الإلكترونية أو صناعة المحتويات الرقميَّة عبر وسائط التواصل الاجتماعي والتطبيقات الرقمية المتاحة، مع ضرورة أنْ تغطي تلك المناهج مناحي التنبيه بالآثار القانونية والاجتماعية والأسرية التي قد يتعرض لها المستخدم العراقي جراء سوء استخدامه للإنترنت، بمشاركة نخبة المختصين في المجالات الرقمية والقانونية والصحية والنفسية والتربويَّة.