قراءة في كتاب (الصحائف البغداديَّة)

فلكلور 2021/05/27
...

 عادل العرداوي 
لماذا خرجت أول تظاهرة شعبيَّة بوجه والي بغداد العثماني؟ «الدهامشة» محلة كرخية.. سادت ثم بادت..! ( هذه وريقات بغدادية، أشتاتاً فصارت مجتمعات يضمها بين دفتين أمرٌ واحدٌ، هو حب بغداد، وتأتي هذه الصفحات البغدادية، كسابقتها هي مجرد ملتقطات من كتابات لا تخرج من أسوار بغداد، نجد القلم يجول حول (عگد المنارة المگطومه) و(دربونة الطنطل) أو محلة (الست نفيسة)، ويدور في محلة (أيلان دلي) و(تبة الگاوور) وربما صعد الى (الدهدوانه) أو انحدر الى (سوق الفراوي) أو عبر (جسر الگطعة/ أي الجسر الخشبي) ومرَّ من سوق (القلغ) وربما عبر الى الصوب الصغير متذكراً (دربونة التنانير) و(الحصانة) و(العكامه) و(الحطاطبة) عائداً الى محلته القديمة (الشيخ صندل) التي هي وريثة (محلة العقبة) في التاريخ القديم،
 
 وكنت قد تصيدت من جرائد بغداد القديمة، ومن بعض الكتب، ما يدور في محور بغداد، ما يقرب من عشرين سجلاً، فضلاً عن الأوراق المتناثرة، وصرت أرجع إليها حيناً بعد حين، والفضل يعود إلى أولئك الكرام الذين التقطتها من مواردهم وعوائدهم هذه الصحائف، ويبقى الفضل للسابق على اللاحق، وهو فضل يذكر فيشكر، وهذا القلم مدين لأولئك الراحلين رحمهم الله..).
هذا جزء من مقدمة كتاب (الصحائف البغداية) بقلم مؤلفه الأديب البغدادي الراحل فؤاد طه محمد الهاشمي، الذي صدر عام 2013 ضمن إصدارات (بغداد عاصمة الثقافة العربية). وبالعودة لمؤلف الكتاب فإنني عرفته بغدادياً أصيلاً كرخياً من (الشيخ صندل) متحمساً لتراث وتاريخ بغداد، ومعتزاً ببغداديته وهذا ما كنت ألمسه فعلاً في هذا الرجل عندما كنت ألتقيه في مقهى (الشابندر) بشارع المتنبي، إذ كان الهاشمي واحداً من رواد ذلك المقهى البغدادي العريق.. كتاب (الصحائف البغدادية) الذي بلغت صفحاته قرابة (200) صفحة من الحجم المتوسط، ضم بين صفحاته نبذاً وخواطر وذكريات وطرائف، وأحداثاً وأحاديث، وأعلاماً وأقلاماً، استطاع الهاشمي أنْ (يفلسها) ويقدمها لنا (مقشرة) لنتذوقها لذيذة منعشة طريفة ممتعة، وقلما تجد ذلك متوفراً في كتاب واحد بهذا الحجم المتوسط، فهو مختصر مفيد أو قل (كشكول بغدادي)، ولغزارة الموضوعات التي تناولها الكتاب، سأكون مضطراً لأنْ أختار بعض المحطات التراثية منه فقط، على أمل العودة له ثانية.
أول تظاهرة بغدادية في شارع القشلة..! ففي عنوان (أول تظاهرة شعبية في شارع القشلة) وحسب ما ذكره مؤلف كتاب (البغداديون اخبارهم ومجالسهم) الراحل ابراهيم الدروبي، انَّ حادثة جرت في بغداد عام 1904، قد لفتت باله وسجلها في كتابه ذاك تتعلق بقيام أول تظاهرة في زمن والي بغداد العثماني (عبد الوهاب باشا)، إذ رفض المشاركون فيها خطوة الوالي المتعلقة بتسجيل عدد النسوة في العراق، بهدف أنْ يعطي لكل واحدة منهن تذكرة عثمانية ودفتر نفوس (جنسية) خاصة في ولايات بغداد والموصل والبصرة، وذلك بناءً على طلب سلطاني صدر من الباب العالي في استنبول، ويشير الى أنه لما شاع هذا الخبر بين جموع أهالي بغداد قامت قيامتهم لما يحتفظون به من تقاليد موروثة وعادات عربية معروفة، بمعنى أنَّ هذا الأمر الذي أقدم عليه الوالي إنما يمس شرفهم ويحط من قدرهم وكرامتهم.! ما دفع بجموع الرجال من أهالي محلات باب الشيخ، والصدرية، ورأس الساقية، وفضوة عرب وگهوة شكر، وما جاورها، للتظاهر شاجبين تلك الخطوة الغريبة.! خرجوا يتقدمهم السيد احمد النقيب نجل السيد علي النقيب ومعه ايضاً أهالي محلات بني إسعيد وقنبر علي والفضل بمشاركة رؤساء تلك المحلات معلنين السخط والاستياء، يتقدمهم ضاربو الطبول والدمامات والأبواق والرايات، مسلحين بالسيوف والخناجر والقامات والمسدسات والبنادق القديمة، وأهازيجهم (هوسات شعبية) وأناشيدهم تشق عنان السماء، حتى جرَّ الأمر الى الاصطدام بين الجموع و(الجندرمة)، واحتشد الجميع ومعهم أهالي جانب الكرخ، كما أنَّ بعض النسوة من تلك المحلات الثائرة، خرجن بتظاهرة مماثلة ايضاً، حيث توجه الجميع الى (سراي الحكومة) الذي يتواجد فيه الوالي اي بناية (القشلة) الحالية، وبقوا مصرين على عدم التفرق إلا بعد أنْ قرر الوالي المذكور تأجيل النظر في أمر التسجيل.
وللتعريف بشارع القشلة التي حدثت فيه هذه التظاهرة البغدادية، هو الشارع الممتد من ساحة السراي الواقعة مقابل بناية مديريَّة الشرطة العامة وينتهي عند مدخل سوق السراي من جهة شارع المتنبي، واسمه الرسمي في السجلات البلدية الحكومية (شارع مدحت باشا) نسبة الى والي بغداد المصلح مدخت باشا (1869 -1872).
ومن الفصول الطريفة في الكتاب المذكور أيضاً فصل يحمل عنوان (محلة ضائعة) والمحلة الضائعة المقصودة هي واحدة من محلات الكرخ الشاطئية القديمة، وتقع في منطقة الجعيفر، وهي تقع خارج باب السور الذي كان يعرف في بداية القرن العشرين باسم (باب الكاظم) أي الباب المتجه شمالاً نحو مدينة الكاظمية الحالية، وهي من المحلات التي سادت ثم بادت كما يصفها الهاشمي وهو واحد من أبناء الكرخ وأدرى بشعابها، وتلك المحلة الكرخية الضائعة كان ينزلها رهط من البدو (الجمالة) القادمين من نجد في الجزيرة العربية والذين عرفوا بين الناس آنذاك باسم (الدهامشة)، إذ يوضح مؤلف الكتاب أنَّ هذا الاسم ظل يتردد حتى عقد الأربعينيات من القرن المنصرم، ثم انحسر عن الذاكرة مثلما انحسر الدهامشة عن تلك الأرض. وحسب مشاهدات الهاشمي بوصفه شاهد عيان فإنَّه يؤكد أنه كان يشاهد أسراب (الگفف والاكلاك) ترسو على شاطئ نهر دجلة، عند شريعة (الدهامشة) وهي محملة بالرقي والبطيخ والدجاج والبيض والأغنام وغيرها من البضائع من خيرات أرضنا، إذ كانت سكة (الترامواي/ الگاري) تمرُّ به صاعدة في سيرها نحو الكاظمية منطلقة من الكرخ، أو نازلة في عودها الى الكرخ من الكاظمية، إذ كانت تلك الشريعة النهرية غنية بأسماكها، وكان الصيادون منتشرين في زوارقهم (البلام) ما بين شريعة (المجيدية/ مدينة الطب حالياً) ذات البساتين الوارفة الظلال، وبين كتف منطقة (الجعيفر) حيث السيادة للدهامشة لا لغيرهم. وعلى ذكر شريعة المجيدية التي تقع في جانب الرصافة من الجانب الشرقي للنهر فإنَّ الهاشمي يستذكر من أيام طفولته إحدى المرددات البغدادية التي كان يرددها الصبيان آنذاك ونصها: يحلوين الشوارب وين هالنيه؟ حفروله گبر جوه (المجيديه).. ويشير ايضا الى أنَّ الذي بقي في ذاكرة الكرخيين عن الدهامشة، دعوة بالشر كانت تطلقها العجائز على من لا يردن له خيراً بسبب شره، فاذا وصلهن مثلاً خبر مفاده أنَّ أحد الأشرار نزل به مرض معين قالت قائلتهن: (وعله ادهيمش..!) وهي تشبه دعاء الداعي بالشر حيث يقول: (وجع شديد. وصخونة العبيد..!) أو (عساك ببو زويعه) أو (كرفك ابو چفچير..!) أو (موت احمر أوبا اصفر..!) وهذه الأدعية كلها تشير الى موجات الطواعين التي كانت تعصف بالعراق، فتجرف الناس جرفاً، والأقسى من ذلك مصاحبتها لموجات الفيضانات العاتية أو الريح الصرر! ويستنتج الهاشمي من هذه الأدعية التي خفت بريقها الآن، وخاصة من دعاء (عله ادهيمش) أنَّ المقصود منه إنما الطاعون الذي راح ينتزع الناس وكأنهم اعجاز نخل خاوية، الطاعون او الوباء الاصفر او ابو چفچير، وهي التي أبادت البدو أصحاب الجمال (الدهامشة) وقضت عليهم! ويضيف ان في خارطة ( بغداد شهري) اي خارطة مدينة بغداد التي رسمها المقدم رشيد الخوجة (الذي أصبح بعد تأسيس الحكم الوطني محافظاً وأميناً للعاصمة في عشرينيات القرن الماضي) وطبعها الألمان في برلين عام/ 1917، أوردت اسم محلة الدهامشة واضحة وهي محلة شاطئية تمر بها سكة الگاري لتفصلها عن الجعيفر، إذ ورد اسم المحلة في الخريطة المذكورة (دهماشية) وظهر في أسفلها موضع لمركز الشرطة (قراغول). وبين ايضاً في هذا الصدد أنَّ الدكتور علاء موسى كاظم نورس قد جاء بدراسته عن (أحوال بغداد في القرن الثامن عشر والتاسع عشر) وهو كتاب صادر عن دار الشؤون الثقافية بوزارة الثقافة العراقية عام/ 1990، إعادة لنشر اسماء محلات الكرخ، مسمياً (الدهامشة) باسم (وهاش) ودامجاً سوق خضر الياس بالتكارتة، ومسمياً دربونة الحجاج باسم (سوق الحجاج)، واوضح الهاشمي ان (دار الوراق) للنشر حينما قامت باعادة طباعة خارطة (فيلكس جونس) قبل سنوات بألوانها نشرت جدولاً مفصلاً في أسفل تلك الخريطة باللغتين العربية والانگليزية وقدمت كشفاً صحيحاً وصريحاً لاسماء المحلات الكرخية، إذ جاء اسم تلك المحلة المندرسة اليوم باسم (محلة دهماش).
وبعد هذا فإنَّ كتاب الهاشمي يضم فصولاً وعناوين عديدة ومهمة جداً عن شقاوات بغداد وشهادات بحق بغداد من زائريها، ومسميات محلات بغداد ومواقعها ومنها محلات تغيرت أسماؤها الى مسميات أخرى، وغيرها من الموضوعات التاريخية والتراثية الشيقة.