علي المرهج
لعل أفضل لفظ ينطبق على الفلسفة هو «التجديد»، فالفلسفة منذ نشأتها هي فكر تجديدي، ينتقد ما قبله، إما بتقويضه وتأسيس فكر جيد على أنقاضه، أو نقده وإعادة إنتاجه بطريقة لا تقطع مع الأصل، ولكنها تُجدد الوعي به، لتُنتج فكرًا إبداعيًا، فلنأخذ مثلًا فلسفة طاليس التي شكلت لحظة التأسيس للفكر الفلسفي المناهض للفكر الأسطوري، الذي أنتج وعيًا جديدًا لا يقوم على أساس القطيعة التامة مع الفكر الذي سبق، ولكنه أعاد الأفكار التي جاءت على شكل ملاحم وأساطير لا تعتمد الدليل العقلي أو الحسي لتأييد فكرة قيلت في الفكر الأسطوري، مثل:
الماء أصل الوجود، أو أصل الحياة، وهي جملة ذكرها طاليس فكانت هي الجملة التي يبدأ بها تاريخ الفلسفة، رغم أنها جملة طرحت بصيغ عدة في حضارات الشرق القديم، لا سيما بلاد الرافدين ومصر القديمة، ولكنها جاءت في سياق أدبي أو ملحمي أو فني، أما طرح طاليس لها فقد كان من باب العلم والثقة بقدرة الإنسان على فهم الوجود وأصله وفق أدلة عقلية أو حسية.
إذن بداية الفلسفة هي تجديد لفكر سبق، وكل فلسفة إنما هي تجديد لفلسفة سابقة، اما برفضها والرفض يقوم على فكرة أن هناك نظرية خطأ وهناك نظرية جاءت على أنقاضها، ولولا القديمة لما جاءت النظرية الجديدة، ومثلما قال باشلار {إن تاريخ العلم تاريخ تصحيح أخطاء}، ولولا أخطاء أرسطو في الطبيعيات وعلوم الحيوان وغيرها من العلوم لما ظهرت الكثير من العلوم الحديث والنظريات الكونية، ولولا وجود فلسفة إفلاطون لما وضع أرسطو فلسفته، كما لم يضع إفلاطون فلسفته لولا أطروحات أستاذه سقراط، وهكذا هو فعل التفكير الفلسفي في القطع أو {الرفض} الذي هو تجديد للقديم حتى وإن تقاطع معه، أو تجديد مع وجود صلة وابقاء لعناصر فلسفة قديمة وحذف لأخرى واستحداث لعناصر جديدة.
مرحلة عصر النهضة الأوروبية هي عودة لاحياء التراث الفلسفي تداخلت معها حركات الإصلاح الديني، وكلا الحركتين إنما هما تجديد على مستوى الاحياء للآداب والفلسفة والفنون اليونانية والرومانية بطريقة حداثية، هذا في حركة النهضة، أما الإصلاح الديني، فهو قطع ووصل، قطع مع الطريقة الكهنوتية واحتكار الحق والحقيقة، والوصل أو العودة للدين الحق الذي هو علاقة نقية بين العبد وربه لا تحتاج لوساطة رجال الأكلريوس الديني.
لو أنعمنا النظر في فلسفة ديكارت، لوجدناها فلسفة جاءت ردة فعل على منطق أرسطو وفلسفة العصور الوسطى ذات الطابع الأرسطي، ليؤسس منطق الاستدلال لتجاوز منطق القياس الأرسطي، ويطرح فلسفته العقلية كرد فعل على فلسفة العصور الوسطى الذي جعلت العقل في خدمة الدين والإيمان، ليقلب ديكارت هذا الأبستيم، ليبدأ أبستيم العقل وبداية مرحلة التنوير التي انجلت لنا في القرن الثامن عشر مع روسو وفولتير ومنتسكيو وكانت.
لو نظرنا إلى فلسفة نيتشه لوجدناها فلسفة تتقاطع مع الفلسفة التأملية المثالية، وتجدد الوصل مع فلسفة التغيير والصيرورة الهرقليطية، بل وحتى السفسطائية وكل فلسفة تعترف بقدرة الإنسان على الخلق والإبداع، بوصفه طاقة لوحده قادرا على خلق قيمه بنفسه.
التجديد هو إعادة إحياء للقديم مع رفض بعض عناصره القديمة، وإضافة عناصر جديدة مستمدة من الحاضر، إما الإصلاح إنما هو ترميم للماضي مع الحفاظ على جميع عناصره، ومحاولة سكها وسبكها وفق أنموذجها السابق، بينما يكون التنوير يستمد طاقته من تراث سابق، ولكنه لا يرتكن إلى معرفة، ولا يُسلم بها على أنها حق ما لم يتبين لها بعد تفحص وتمحيص عقلاني أنه كذلك، بمعنى أن التنوير ليس إعادة ترميم للماضي كما هو مثلما يسعى لذلك الإصلاحيون أو الإحيائيون، ولا يسعى أصحاب التنوير لإعادة ترميم القديم عبر تجديده، مثلما أوضحنا معنى التجديد، لأن التنوير حركة فكرية تُعطي للعقل مساحته وللإنسان حريته في الحياة والتفكير العقلاني الحر، مع سعي جاد للعمل على التقدم في الفنون والعلوم بالاعتماد على الطاقات الإبداعية الكامنة عند الإنسان.
كل هذه المفاهيم التي ذكرناها والتي جاءت مرَ بها الفكر الغربي من قبل، تأثر بها المفكرون المسلمون والعرب النهضويون، بصيغة أو أخرى، فمنذ رحلة الطهطاوي إلى فرنسا واطلاعه على الحياة الفكرية والاجتماعية في فرنسا وأوروبا، باتت مفاهيم مثل: التحديث والحرية والدستور والوطنية والمواطنة والتقدم قد بدأت تدخل لمعجمية التداول في الفكر العربي، ومن ثم العمل على تحقيق ما يمكن تحقيقه أيام محمد علي
باشا.
أما مفهوم الإصلاح، فقد بدأ يأخذ أهميته في الفكر مع أطروحات الأفغاني ومحمد عبده وخير الدين التونسي، أما الكواكبي، فهو مفكر الحريات ونقد الاستبداد.
بينما نجد مفهوم التجديد يأخذ الحصة الاكبر في كتابات المفكرين المسلمين والعرب النهضويين والمعاصرين، إذ نجد المفهوم عند المفكر الهندي شبلي النعماني {1847ـ 1914} الذي كتب كتاب {علم الكلام الجديد}، وكان الفضل له في الكشف عن التسمية لا الكشف عن علم كلام جديد بالفعل، لأن كل مباحثه في كتابه هذا كانت هي ذاتها مباحث علم الكلام القديم أو
التقليدي.